نموذج الاستقلال المعرفي للتعايش الديني

17 اغسطس 2021

(منصور الهبر)

+ الخط -

عرض مقال الأسبوع الماضي "لماذا فشل مشروع حوار الأديان" في "العربي الجديد" ما يعتقده الكاتب سبباً في فشل أغلب مشاريع حوار الأديان، وكان أهم أضلاع ذلك الفشل غياب الاستقلال، بسبب توظيف مبادرات حوار الأديان لصالح مركزية الغرب أو نفاق المستبد العربي، وفي تجاوز البنية التأسيسية لمتطلبات الحوار الديني العالمي، وجدولته وفقاً لما يحتاجه كل إقليم من العالم، أو كمفاهيم مشتركة لصالح التعايش الديني. وقد تكون هناك مبادرات جيدة محدودة لم تصل إلينا، غير أن التحليل في المقال السابق تَتَبّع دلائل الواقع الذي يعيشه العالم، أو العلاقات المتوترة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي. وهنا نؤكد على أهمية هذا الحوار ومأسسته، وتقدّم القوى الإنسانية المخلصة للدفع به، ضمن منصّات الثقافة المحلية والعالمية، حين تصحّح الفكرة المركزية فيه، لصالح إنسان هذا العالم أينما كان دينه وتوجهه، ولكن حوار الأديان بين المسلمين واليهود والمسيحيين اتخذ مقعده، بسبب مركزية الأديان السماوية في تاريخ العالم، وفي انتساب شعوب الأرض لهم.
ومن الظواهر السلبية المتضاربة أن العالم يشهد حالة إلحاد عدائي للروح والقيم، تنتشر في الأرض من دون أن يكون لها مدرج علمي تنطلق منه، يسمح بمناقشتها، وإنما ينتشر هنا عملها وتأثيراتها الضخمة، عبر نزع الاستشعار الروحي لضمير الفرد، والخروج من القيم الروحية للذات، وقذف الشباب في حالة تصحّر قاسية، تدفعهم إلى نبذ أسرهم والانتحار أو الإدمان.

أهمية التواصل في المهجر الغربي، وفي المشرق بين المسلمين والديانات الأخرى، فلا يجوز أن تحلّ بينهم القطيعة

في المقابل، لا تزال غالب المرجعيات الدينية في الشرق أو الغرب، إما عاجزة عن أن تجيب الشاب عن أسئلة عقله، أو تخاطبه بصلف شرس يؤثر على توازنه النفسي مع الدين. وهنا بلا أدنى شك يختلف هذا الدين بحسب قاعدته الفلسفية، ودلالاته العقلية. أصبح هذا الإلحاد اليوم سيولة وظيفية رائجة، تُعبّأ بها المواد والعناوين لسوق جدل صاخب وجاذبية جباية للسوق الرأسمالي، تماماً كما بدأت حكاية الإعلان التجاري في الغرب منذ الثلاثينات، مستخدماً تسليع الأنوثة، من علبة السجائر حتى إطار السيارات.
أما البعد الآخر فهو سلسلة إسقاط القيود القانونية المتتابعة في الدول الغربية، عن تعاطي المخدّرات وبيعها، بل وتسويقها قانونيا، بحكم أن المرجعية المصلحية للحكومات الغربية، أضحت تتراجع عن تلك القيود، كون أن الفراغ الروحي، والفردية المادية، يتطوران لتضغط لإسقاط أي عازل عن تعاطي هذه اللذّات أو الشهوات المدمرة.
أما البعد الثالث فهو البيئة، فمن خلال رحلتي البحثية السابقة، اتضح لي أن هناك انسحاباً ممنهجاً لغالب الكنائس المسيحية، من مهمّة الدفاع عن البيئة الاجتماعية، حتى لمن يؤمنون بها، وتكفل حقوقهم الدساتير. ويُقصد هنا بهذه البيئة الأسرة الطبيعية بين الرجل والمرأة، وتحصينها أخلاقياً وسلوكياً، والاكتفاء بالبيئة الجامدة والمحافظة على المساحة الخضراء للأرض، وهذا المسار مهم جداً. ولكن لماذا تُهمل الطفولة والأسرة الطبيعية، وتترك تحت رحمة القوة الجبْرية في الإعلام الجندري المتطرّف، الذي لديه آلة رأسمالية واسعة في سوق التكنولوجيا والسينما والدراما. فلماذا لا تُنشأ دوائر حوار تشمل المؤسسات الدينية، والشخصيات المدنية المهتمة بهذه الأبعاد لصالح الحياة الإنسانية المعاصرة. هنا تبرز أهمية التواصل في المهجر الغربي، وفي المشرق بين المسلمين والديانات الأخرى، فلا يجوز أن تحلّ بينهم القطيعة، وهي قطيعةٌ تُعمي أعينهم عن مساحة المشتركات الضخمة، ومسارات التعاون العديدة على البر والتقوى الأخلاقية.

الأفضل أن تنطلق منابر الحوار الديني في دول الشرق، لكن مساحته هناك محدودة جداً

أما البعد الآخر المهم للغاية فهو تنظيم طاولة الحوار لأجل التعايش الديني، ونعني به أن افتراق الأديان لا يفرض بالضرورة صراع أتباعها، ولكن كيف يُترجم ذلك لصالح الشعوب والأمم، ويبعد عن التوظيف أو الاستعراض. هنا تأتي مهمة الدور الجديد لأنصار الحوار الديني، وقد كان الأفضل أن تنطلق منابره في دول الشرق، لكن مساحته هناك محدودة جداً. ولذلك نحتاج اليوم لإعلان مبادراتٍ مستقلة في المهجر لهذا الغرض، تنظّمها قواعد الوعي المعرفي وتحديد المقياس الأخلاقي لمصالح الجميع.
وهناك مواسم عديدة في الغرب، ترعاها بعض الكنائس والقيادات الروحية، لكن المشكلة أننا لا نرى أثراً لها، وهو ما يعني أننا بحاجةٍ اليوم إلى شبكة جسور، تطرح هذه المبادرات، وتنقل نبضها للناس ولمجتمعاتها داخل الدولة الغربية، ومنها إلى دول الشرق، فهذا يُعزّز مسيرة هذه الجسور وأثرها في وجدان المتابعين، ويقلل من نظرات الشك ونزعات الصراع.

من المعيب أن نعجز عن إدارة حوار ذاتي بيننا في المهجر، ثم يُترك ملف التعايش الديني أو معالجة التطرّف رهن الحكومات الغربية ومشاريعها الموسمية

ولكن لا بد هنا أن نؤكد أن هذا المسار يجب أن يكون قائماً على احترام ديانات الأمم والشعوب، وليس إشعارها بالدونية، ولا فرض جدول حوار عليها. ولدينا مهمة خاصة للشرق، وخصوصا في الوطن العربي، بأن نحيي حوارنا العربي الداخلي لأجل تعزيز التعايش الديني بين المسلمين والمسيحيين العرب الذي تعرّض لحملات كراهية وحشد من قُطّاع الطرق، زرعوا الفتنة بين أبناء الأمة العربية، المتحدة جذورهم، مسلمين ومسيحيين، في أرض العرب منذ قرون. فمن المعيب أن نعجز عن إدارة حوار ذاتي بيننا في المهجر، ثم يُترك ملف التعايش الديني أو معالجة التطرّف رهن الحكومات الغربية ومشاريعها الموسمية، والذي قد يوظف خارج سياقات المصلحة الإنسانية والوطنية. ولستُ هنا أفرض على الإخوة المسيحيين العرب عدم التواصل في الشأن الديني مع المرجعيات الغربية الكنسية ولا الحكومات، وهذا في الأصل قائم بحكم مواطنتهم الغربية أو رابطهم الروحي. لكنني أقول إن علينا ان نحيي ذاتياً دورنا الإنساني ودلالة التعايش الزمني الطويل الذي ثبت في قرون طويلة، على الرغم من كل الخروقات وسقط بعد الغزو الأميركي للعراق.
أما المهمة الأخرى فهي المساهمة في الحديث المنبري، لشرح أبعاد الرسالة الإسلامية في التعايش وتبادل ذلك بين كلا الطرفين، وقد لا يكون ذلك بالضرورة في المؤسسات الكنسية أو المراكز الإسلامية، ولكن من خلال الاستضافات المتعدّدة لشركاء المبادرة الأخلاقية بين الأديان، إنها فريضة غائبة عن عالمنا المشترك اليوم، يجب أن نحييها في أسرع وقت، أدركنا هذا الزمن أو انتفعت به أجيالنا.

18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
مهنا الحبيل
مهنا الحبيل