نقشبنديات بليغ حمدي
لعلّها نوباتُ حنينٍ متوطّنة فينا، نحن المخضرمين ممن أدركوا بعض سبعينيات القرن الماضي، ومن سبقونا، تجعلنا نستعيد أجواء رمضان العتيقة بانجذابٍ خاص، فتلقانا أقلّ تعلّقا بالمستحدث والراهن. تُراها البساطةُ الضافية إبّانها، والسماحة التي كانت وفيرةً في الناس، والبهجة التي كان في الوسع أن تُحرزها بيسر، هي الأسباب؟ لا أعرف. ما أعرفه أن أذكارا وأدعيةً وتواشيحَ وابتهالاتٍ وأناشيدَ دينية، لمّا كنتَ تسمعها في التلفزيون، قبيل أذان الإفطار وبعده، وأحيانا عند السحور، مرفقةً بصور مآذن ومساجد وجموع من المؤمنين الخاشعين والمتبتّلين، بالأبيض والأسود، ثم بالألوان، كانت تشيع في الأرواح والأنفس والأبدان صفاءً مُضافا، ووداعةً وهناءة بالٍ غزيرتيْن. من هناك، من تلك الغضون النائية، يأتي إلى هنا، إلى حيث الحنين يقيم، صوت شيخٍ منشد، موسيقاه باهظة العذوبة، اسم صاحبه الشيخ سيد النقشبندي. واحد من جيل مضى من مشايخ الإنشاد والمبتهلين في مصر، ثم لم تعرف مصر، ولا أي بلد عربي (فيما أرجّح)، مثله. على أن مؤسساتٍ، أهليةً وحكوميةً، في غير بلد عربي، تقوم على رعاية مواهب وقدرات شبابٍ وفتيةٍ لديهم ملكاتٌ واعدةٌ في فن الإنشاد الديني، فيما فائض الركاكة في كثير من الميديا العربية لا يجعلها تكترث لأمرهم. وكان رائقا من تلفزيون "العربي" إنتاجه برنامج "مقامات"، وتقديمه في رمضان 2019، وقد استمعنا فيه إلى إبداعاتٍ متفرّدةٍ في هذا الفن، من المغرب وسورية ولبنان ومصر و... . وعندما أقرأ لمن كتب، عن دراية، إن ثمّة مواهبَ عربيةً كثيرةً في هذا، أصواتُها متميزة، وتجيد أداء الأناشيد الدينية والتواشيح والابتهالات القديمة المستعادة بإتقان، غير أن التراجع الموسيقي العام سبب تراجع فن الإنشاد الديني، عندما أقرأ هذا أرى قدّامي ملك الموسيقى بليغ حمدي.
مشهورةٌ، أو ذائعةٌ ومعروفةٌ، قصة تلحين بليغ للنقشبندي، بطلب من أنور السادات الذي كان "سمّيعا" لاثنيهما، وكان على صلةٍ خاصةٍ بهما. ذلك العام، 1972، ابتهج الموسيقار بالطلب، وامتعض منه الشيخ، فكيف له أن "يغنّي"، بل وألحانا لصاحب "الحب كله" (!)، على ما أبلغ الإذاعي وجدي الحكيم متبرّما، غير أن هذا الحصيف طلب منه أن يسمع أولا ما أعدّه الموسيقار، في خلوةٍ بينهما في الإذاعة المصرية، وإذا لم يرُق له ما سيسمع، يسكت عن هذا، ولا يخلع الجبّة، علامةً يعرف الحكيم بها عدم الرضى، ليتصرّف، فيخبر الرئيس بأن الأمور لم تمض كما أراد. ولكن الشيخ أدّى علامة الرضا والارتياح، بل والإنبساط، فخلع الجبّة، لمّا وجد في النصوص التي جاء بها بليغ حمدي من الشاعر عبد الفتاح مصطفى، وفي الألحان التي أنجزها، عملا بديعا. ثم لمّا سجّل الابتهالات الستة، ومنها التحفة "مولاي .. إني ببابك قد بسطت يدي"، وبعدها سبعةً أخريات، قال "بليغ عفريت من الجن" و"لولاه لا يتذكّرني أحدٌ بعد رحيلي". وقد غادر إلى دار البقاء، رحمه الله، عن 56 عاما في 1976، مشيَّعا بما استحقّ من أوصاف، "قيثارة السماء" و"كروان الإنشاد الديني" و"إمام المدّاحين" و"أيقونة رمضان".
قبل روائعه مع بليغ، كان في ظن شيخنا، حافظ القرآن الكريم، المنتسب إلى طريقةٍ صوفيةٍ شهيرة، أن اللحن الموسيقي قد يُفسد حالة الخشوع التي تُرافق الابتهال والتوشيح. وكان يؤدّي الابتهالات مكتفيا بصوته العريض بالغ السّعة، حيث أمكن له أن يصنع تنغيماتِه وإيقاعاتِه من دون موسيقى، ومنفردا من دون كورال، (قال حفيد له إن محمد الموجي وسيد مكاوي وغيرهما لحّنوا له، ولا دليل على هذا، وأشكّ فيه). ولمّا قال له بليغ إنه سيصنع له لحنا سيعيش مائة عام، كان يدرك الطاقة الهائلة في صوت هذا الشيخ، ولهذا ترك له أن يتصرّف قليلا في الألحان والأداء، فالطبقات الموسيقية في هذا الصوت متعدّدة. ومع مقام البياتي الذي اختاره صاحب لحن "فات الميعاد"، سيما في "مولاي .."، ومع أرضيةٍ صوتيةٍ لكورالٍ يصاحب صوت الشيخ فسيح المدى، جاءت "نقشبنديات" بليغ حمدي غايةً في الرّقي، جميلةً في الوجدان، اجتمع فيها بديع الكلام مع موسيقى آخت بين الطربي والروحاني مع صوتٍ مُهابٍ لا يغني فقط، وإنما يبثّ أيضا نفحاتٍ من غبطة المؤمن بإيمانه، فتستظلّ الروح بسكينة رهيفة.
كانت "نقشبنديات" بليغ حمدي من تقاسيم بهجة رمضان. .. سقا الله.