نعمة التنوّع... أو نعمت شفيق

29 ابريل 2024
+ الخط -

لم تقدّم رئيسة جامعة كولومبيا (في الولايات المتّحدة) نعمت شفيق (مينوش)، التي نالت نصيباً كبيراً من النقد لموقفها من الحراك الطلابي السلمي دعماً لفلسطين، نفسها أنها تمثل ثقافة ما، أو أنها معنية بقضية أو هدف ما خارج ممارسة مهامّها في الوظائف الرفيعة التي احتلتها من البنك الدولي إلى مصرف إنكلترا ووزارة التنمية الدولية البريطانية ورئاسة كلية لندن للعلوم السياسية والاقتصادية وأخيراً جامعة كولومبيا. مسار مهني مثالي لمهاجرةٍ مثالية، وإنْ لم تأخذ أصولها المصرية يوماً حيّزاً مهمّاً في هويتها أو تقديمها هذه الهوية. في إحدى المقابلات عن مسيرتها المهنية، تحدّثت نعمت شفيق عن إنجازاتها الكثيرة ببساطة، وكأنها اكتشفت وصفة النجاح في السهولة، على نقيض سرديات المهاجرين عن الجهد والمثابرة، وهي الشغوفة بالعلم، بذلت بالضرورة الجهد وثابرت لتحقيق النجاح. تقول نعمت إنها اختارت المجال المصرفي في إحدى مراحل مسيرتها، لأن ذلك كان سهلاً إلى حد أنه كان بإمكانها أن تمارس مهامها وهي مغمضة العينين لتوازن مع متطلبات رعاية عائلة كبيرة من أولادها وأولاد زوجها. قال لي سابقاً أحد الموظفين العاملين في الوزارة التي تولت إدارتها إنها كانت تطلب من فريق العمل أن يؤدّي المهام المطلوبة منه لا أكثر ولا أقل، أي ألا يجهَد في محاولة تحقيق أهداف تتجاوز المتوقع منه. ليست نعمت من أنصار المجازفة أو التغيير، بل تُؤْثر براغماتية سياسة الممكن هو الأفضل.

ليس نموذج نعمت شفيق مجرّد إضافة إلى المؤسّسات التي تعينها، بل ضرورة حيوية لنجاح هذه المؤسّسات، بعدما بات التنوّع وتمثيل النساء مؤشّراً رئيسياً على صحة هذه المؤسّسات

لم تقدّم نعمت شفيق نفسها يوماً أنها امرأة من العالم الثالث أو الجنوب العالمي كما يحلو لنا أخيراً أن نسمّيه. وهي أيضاً غير معنية بالخطاب النسوي. في إحدى المقابلات، ردّت على سؤال عن سقف تمثيل النساء في المناصب الرفيعة بأنها تفضّل الحديث عن فتح الأبواب عوضاً عن تكسير السقوف، وأنها حظيت بمدراء قدّموا لها الدعم والثقة، وهذا ما تقوم به لمساعدة غيرها، إلا أن من السذاجة الاعتقاد أن لا علاقة لوصول البارونة نعمت شفيق إلى المناصب التي احتلتها عن جدارة بسياسات التنوّع القائمة على تمثيل الأقليات الإثنية، وخصوصاً النساء الناجحات من هذه العوالم. تكاد نعمت شفيق أن تكون المرشّحة المثالية لهذا التنوّع، فهي مصرية أميركية بريطانية تتحدّث الإنكليزية من دون أي لكنة، وتؤدّي مهامّها بأناقة ودقة ومواظبة من دون جنوح الانفعالات والعواطف التي غالبا ما "يوصَم" بها القادمون من عالمنا. ولعل أحد أمثلة هذا الاندماج بالصورة المطلوبة رباطة الجأش التي أبدتها خلال استجوابها أمام لجنة الكونغرس، وردّها على الهجوم الشرس من بعض المستجوِبين، بالابتسامة، على نقيض رئيسات الجامعات الأخريات اللواتي دافعن بشراسة عن الحرية الأكاديمية لدى استجوابهن. وليس نموذج نعمت شفيق مجرّد إضافة إلى المؤسّسات التي تعينها، بل ضرورة حيوية لنجاح هذه المؤسّسات، بعدما بات التنوّع وتمثيل النساء (خصوصاً من يسمّون النساء الملوّنات) مؤشّراً رئيسياً على صحة هذه المؤسّسات، وبالتالي سمعتها وقدرتها على اجتذاب التمويلات. ينطبق الأمر بشكل خاص على المؤسّسات الأكاديمية العريقة التي فتحت أبوابها واسعة أمام سياسات التنوّع في التمثيل، والتي حازت نعمت شفيق قسطاً واسعاً من فرصها عبر رئاسة جامعتيْن غربيتين رائدتين.

صمت الأكاديميين المبتدئين من أصحاب المناصب الهشة والمهدّدة مفهوم، إلا أنه من غير المفهوم صمت أكاديميين ذائعي الصيت وبينهم عمداء كليات وجامعات رائدة

اختصار أزمة جامعة كولومبيا، والتي تحولت إلى شرارة الانطلاق لحراك جامعي قد يتجاوز التضامن مع غزّة الى إعادة طرح دور الجامعات حلبة للحراك السياسي، بنموذج المهاجرة الوصولية المتبرّئة من أصولها، هو تقزيم للأزمة. تركيز الجامعات على تسليم شؤونها للبيروقراطيين، من أمثال نعمت شفيق، باعتبار أن هؤلاء أكثر قدرةً على إدارة المشكلات المالية للجامعات واجتذاب التمويلات الكبيرة، ساهم في تحوّل الجامعات إلى شركاتٍ تجاريةٍ غير معنية بالنقاش بقدر ما هي معنية بلجمه. كما أن نعمت شفيق ليست الوحيدة التي تراجعت أمام خطر احتمال خسارة امتيازاتها لتقوم بما اعتبرته شرطة نيويورك نفسها مبالغةً لم تكن ضرورية. القسم الأكبر من الأكاديميين من أصول عربية في الجامعات الغربية صامت، بمن فيهم من كان يتغنّى قبل اندلاع حرب الإبادة في غزّة بسرديات تحرير المناهج التعليمية والنتاج العلمي الأكاديمي من تراث الاستعمار.
صمت الأكاديميين المبتدئين من أصحاب المناصب الهشة والمهدّدة مفهوم، إلا أنه من غير المفهوم صمت أكاديميين ذائعي الصيت وبينهم عمداء كليات وجامعات رائدة، والذين شكل انتماؤهم لهذه البيئات عاملاً أساسياً في ترقيتهم الى جانب كفاءتهم. لا توجد أعدادٌ عن أصول المشاركين في التظاهرات الضخمة التي عمّت شوارع مدن الغرب، وأولها تظاهرة لندن الحاشدة إلا أن مشاهد هذه التظاهرات التي نقلتها وسائل الإعلام تدلّ على مشاركة مجموعات متنوعة لا يشكل المهاجرون العرب بالضرورة عمودها الأساسي. لم تكن الأصوات الأكثر راديكالية وجرأة في مقارعة محاولات إسكات نقد سياسات إسرائيل بذريعة معاداة السامية من أصوات العرب، بل أبرزها من أصوات مثقفين وناشطين وفنانين يهود قدّموا مثالاً لشجاعة غير مسبوقة رغم حملات التسفيه والتخوين العاتية ضدهم، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر المنظّرتان النسويتان جوديت باتلر ونانسي فريزر.

لعل حراك طلاب الجامعات الأميركية يطرح في المستقبل بذور تعريف جديد لتنوع حقيقي يتجاوز مجرّد ملء الخانات في سجلات الجامعات لتمثيل الأقليات

ليست نعمت شفيق نموذجاً فريداً. موقعها المتقدم في اتخاذ القرار ومغالاتها في قمع الطلاب لتضامنهم مع ما يفترض أنه قضيتها أيضاً، وما ترتب عنه من أذى للطلاب ولتقاليد الجامعة المعروفة بدفاعها عن الحريات الاكاديمية، فضلا عن عرقلة العام الدراسي، جعلها ذلك كله في واجهة النقد من كل الاتجاهات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ولعلها حاولت أن تحمي تمويلات الجامعة عبر التضحية بالطلاب المتظاهرين ومجموعة الأساتذة التي كشفت أنهم يتعرضون للتحقيق رغم أن هذه المعلومات سرية جدا.  
استدعاء الشرطة لقمع الطلاب والذي أدّى إلى اعتقال 108 طلاب غير مسبوق، وقد أطلق يد جامعات أخرى في الاستعانة بالأمن، كما أطلق شرارة ما تبدو ثورة طلابية في حرم الجامعات الأميركية ضد القمع. الضرر الذي سبّبته سياسات شفيق في "الاعتدال" ليس قليلاً، إلا أن صمت أكاديميين عرب كثيرين في هذه المؤسّسات ليس أقلّ ضرراً وخوفهم على امتيازاتهم يطرح السؤال عن معنى وجودهم في بيئاتهم الحاضنة بما يتجاوز قصص النجاح الفردية. لعل حراك طلاب الجامعات الأميركية ضد الإبادة يطرح في المستقبل، فيما يطرح، بذور تعريف جديد لتنوع حقيقي يتجاوز مجرّد ملء الخانات في سجلات الجامعات لتمثيل الأقليات.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.