نظرية التعقد في العلاقات الدولية
حظيت نظرية التعقد في العلاقات الدولية، في السنوات القليلة الماضية، باهتمام متزايد في الدراسات والنقاشات في حقل العلاقات الدولية، وباتت مفاهيمها وافتراضاتها جزءاً من الجدل والنقاش السائد في العلوم الاجتماعية، حيث صار التعقُّد من أهم مظاهر السياسات الدولية وتفاعلاتها. وراح حقل العلاقات الدولية يستمد خصوصيته من تعقيد الظاهرة الدولية وتركيبها، بالنظر إلى أن التطورات والتحولات الدولية بدءاً من دخول العالم في الألفية الثالثة تشهد حالة من التعقيد والغموض، الأمر الذي جعل مسألة البحث عن تفسيراتٍ لها غاية بحثية/ قضية، تصدّت لها مختلف المدارس والمقاربات في العلاقات الدولية، خصوصاً أن مخرجات المحاورات والنقاشات النظرية الكبرى، الأولى والثانية والثالثة والرابعة، كانت تميل نحو الاستناد إلى معيار الإجماع والشمولية في التنظير، الذي اعتبره باحثون كثيرون معياراً خاطئاً، وتوجّب عليهم البحث عن وضع منهجي يتطلب منهم التكييف النظري مع مستجدّات الوضع الدولي، وإنتاج نمط جديد من التفكير في مسلمات ومرتكزات النسق الدولي التي كرستها النقاشات والمحاورات النظرية السابقة في العلاقات الدولية.
وينطلق محمد حمشي في كتابه "مدخل إلى نظرية التعقد في العلاقات الدولية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2021) من فرضية تفيد بأن السياسة العالمية باتت تتسم بقدر متزايد من التعقد، وأن المقاربات النظرية المهيمنة على حقل العلاقات الدولية غير قادرة على تقديم فهم متسق لها، فضلاً عن تحقيق مزاعمها في بناء نظرية كبرى في هذا الحقل. كما أن الهوّة قد ازدادت بين مستويي النظرية والممارسة في السياسة الدولية، وخصوصاً فيما يتعلق بتزويد صنّاع القرار الدوليين بالفهوم الكافية والتوصيات اللازمة لصناعة قرارات عقلانية ملائمة.
يعتبر المؤلف أن النقاش الرابع في حقل العلاقات الدولية في حاجة ملحّة للمراجعة وإعادة النظر، مستخدماً مصطلح نقاش للإشارة إلى التصوّرات والسجالات المعرفية والفلسفية التي جمعت بين مقاربات نظرية لها إسهاماتها في حقل العلاقات الدولية، حيث يشير الباحثون في العلاقات الدولية إلى أن النقاش الأول تمحور حول نظريتين أنطولوجيتين للطبيعة الإنسانية، تمثل طرفاه في المقاربتين، الواقعية والمثالية، المتقابلتين والمتعارضتين في الوقت نفسه، وساد في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية، فيما تمحور النقاش النظري الثاني حول نظريتين منهجيتين لطبيعة المعرفة وطرق الوصول إليها، وتمثلتا في السلوكية (العلمية) والتاريخية، وسادتا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وظهر النقاش الثالث بعد سبعينيات القرن العشرين المنصرم، وتمحور حول "البرادايم" (النسق) الوضعي ثم ما بعد الوضعي. أما النقاش الرابع، فقد ظهر مع بداية الثمانينيات، وكان تموضعه ثلاثياً داخل حقل دراسات العلاقات الدولية، ونهضت مقارباته على البنائية والعقلانية والتأملية.
تتناول نظرية التعقد النظام الدولي بوصفه نظاماً معقداً، وشواشي السلوك أكثر من كونه مجرد نظام فوضوي البنية
وتتجسّد مسوّغات مراجعة النقاش الرابع في فشل المحاولات البنائية التصوّر في بناء نقاش تعدّدي، يفتح الآفاق نحو نظرية كبرى في العلاقات الدولية، وفي عدم جدوى المشروع التوفيقي الذي شكل جوهر الدعوة إلى النقاش الرابع، الأمر الذي يطرح فرضية التحوّل نحو نقاش جديد، بالنظر إلى أفول ذلك النقاش، بعد أن بدت نظريات العلاقات الدولية السائدة فيه، وكأنها تخوض بالمنطق ثنائي الأطراف نفسه الذي كان سائداً في النقاش الثالث، إضافة إلى تزايد حجم الأدبيات الداعية والساعية إلى إقحام نظرية التعقد داخل حقل العلاقات الدولية، ونحو اجتراح نقاش خامس في حقل العلاقات الدولية قادر على فهم وتحليل الإشكاليات والتطورات والمستجدّات الدولية.
وتتناول نظرية التعقد النظام الدولي بوصفه نظاماً معقداً، وشواشي السلوك أكثر من كونه مجرد نظام فوضوي البنية، وذلك بالاستناد إلى إبستمولوجيا غير وضعية، تجد مرجعيتها في الواقعية النقدية، على أن ينظر إلى الواقعية بوصفها علماً، وليس مقاربة نظرية في العلاقات الدولية، إلى جانب أن نظرية التعقد تحاول التأصيل لإجابات بشأن إشكالات عديدة، منها الإشكالات التقليدية التي بقيت عالقة في النقاش الرابع. وعليه، يجري المؤلف مراجعة للأدبيات التي تحاجج بأفول النقاش الرابع وتدعو إلى تخطّيه، والتحوّل نحو النقاش الخامس، ثم يعرض (ويناقش) الأدبيات والأطروحات التي تدعو إلى إقحام نظرية التعقد في النقاش الراهن، وتدافع عن مزايا مقاربة مسائل السياسة الدولية من منظور نظرية التعقد، معتبراً أن الباحث البلغاري إيمليان كافالسكي أسس عام 2007 للنقاش الخامس، ولبروز نظرية تعقد العلاقات الدولية التي رسمت معالم النقاش الخامس في دراسة السياسات الدولية، بوصفها نظريةً يمكنها أن تزوّد الحقل المعرفي بمفاهيم وأدوات استكشافية، قادرة على تحدّي التقاليد البحثية السائدة، وقادرة، في الوقت نفسه، على تحفيز المخيال التحليلي لدى الباحثين، حيث انطلق كافالسكي من مجموعة من الانتقادات التي تنزع الشرعية عن السلطة "البرادايمية" التي اكتسبتها البنائية فيما سبق، وتأكيده أن البنائية، مثل سائر التقاليد البحثية السائدة الأخرى، عاجزة عن رؤية التعقد في الحياة الدولية، بعيداً عن تمركزها حول الأنطولوجيا الاجتماعية، حيث أشار كافالسكي إلى مجموعة واسعة من قضايا العلاقات الدولية التي شرع باحثون في إخضاعها لتطبيقات نظرية التعقد، خصوصاً في حقول فرعية، كالتاريخ الدولي، والاندماج الأوروبي، والتنمية الدولية، وسوى ذلك.
وإلى جانب إسهامات كافالسكي، ناقش الباحث الجزائري عادل زقاغ إشكالية ما إذا كان النقاش الرابع ينطوي على لامقايسة ضعيفة تمكّن من تعايش "بارادايمي"، اعتماداً على تصور توليفة يقترحها علم التعقد، مجادلاً بأن النقاش الخامس لا يتعلق ببرامج بحثية متنافسة، بل يتجاوزه إلى تبني "بارادايم" أصيل يجسد ثورة معرفية بمفهوم توماس كون، هو برادايم التعقد. ويرى أنه مثلما تحولت العلوم الطبيعية نحو "بارادايم" الكوانتوم في الفيزياء، فإنه لتحقيق قفزات غير مسبوقة، ينبغي الاستفادة من كل الدروس التي تمنحنها "النسبية" و"الكوانتوم" من أجل زيادة فهم العلاقات الدولية. وفي السياق نفسه، أكد باحثون آخرون أن قراءات نظرية التعقد تتضمّن طيفاً واسعاً من التخصّصات، بما فيها أعمال الفلاسفة والفيزيائيين وخبراء الكومبيوتر وعلماء الاجتماع، فضلاً عن الباحثين في العلاقات الدولية، ويطاول الأمر علماء الرياضيات والأحياء وخبراء الأرصاد الجوية أيضاً، الذين يملكون إسهاماتٍ مؤسّسة ومطوّرة لنظرية التعقد، لكن الطبيعة العابرة للتخصصات تضع الباحثين أمام تحدٍّ جديد، يتجسّد في كيفية تجاوز الحدود الفاصلة بين التقاليد البحثية والحقول المعرفية المختلفة.
تتميز الأنظمة المعقدة بأنها أنظمة مفتوحة تتفاعل مع البيئة التي تعمل فيها
ويلجأ المؤلف إلى تقديم شرح موجز لفيزياء الكم أو الكوانتوم، بوصفه مدخلاً إلى نظرية التعقد، وذلك عبر عرض المبادئ الأساسية المؤسِّسة للفيزياء الكوانتية، التي تتجسّد في مبدأ عدم التعيين أو اللايقين، المعروف باسم مبدأ هايزنبرغ (استحالة تعيين سرعة وموضع جسيم صغير كالإلكترون أو الفوتون بدقة وفي آن واحد)، والازدواجية (جسيم - موجة)، والمصادفة (التي تسم تحلل المواد والعناصر المشعة)، والتراكب (الوجود في حالة غير محدّدة)، مع تبيان المفارقات التصورية لفهم هذه المبادئ، المستندة إلى موضوعاتٍ تنتمي إلى العالم الحسي والمشاهد، الذي يقع خارج العالم الذي تبحث فيه فيزياء الكم. ثم يجرى الانتقال إلى استعراض المفاهيم الأساسية لنظرية التعقد، التي يحصرُها المؤلف في ستة مفاهيم أساسية، يتمثل أولها في معضلة مسارات تصادم الأجسام الثلاثة التي طرحها عالم الفيزياء والرياضيات هنري بوانكاريه، وثانيها يخص مفاهيم الشواش والحساسية المفرطة للتغير في الشروط الابتدائية، التي درسها عالم الطقس إدوارد لورنتز، وخلص فيها إلى أن التنبؤ بأحوال الطقس مدة تزيد عن الأسبوع يفقد قيمته بسبب ما سماه "أثر الفراشة"، حيث يمكن لعناصر صغيرة من الطقس أن تُفقد أفضل التنبؤات عن الطقس قيمتها، إذ تتضاعف الأخطاء والأشياء غير المتوقعة، وتتجمع آثارها وتتعاضد عبر سلسلة من الاضطرابات لتتحول من عناصر محلية صغيرة إلى حراك يشمل القارات. ويتجسّد المفهوم الثالث في "الجاذب الغريب" أو جاذب لورنتز الذي يصف سلوك الشواشية غير القابلة للتوقع وأثر الفراشة، عبر التوليف بين مفهوم الجاذب ومفهوم الحساسية للشروط الابتدائية. ورابع المفاهيم يتمثل في التشعب الثنائي والتماثل الذاتي التي نتجت عن اكتشاف العالم روبرت ماي لأصول الشواش في عالم الأحياء. أما خامس المفاهيم فيخص الهندسة الكسرية أو الفراكتلية التي اجترحها عالم الرياضيات بونوا ماندلبروت عند تناوله نمط الشواش في سلوك أسعار القطن. ويتمثل المفهوم السادس والأخير في التنظيم الذاتي والمنظومات البعيدة عن التوازن التي تناولها إيليا بريغوجين في الأنظمة الدينامية اللاخطية.
ويناقش المؤلف مفهوم التعقد، ومفهوم الأنظمة المعقدة بوصفه حجر الزاوية في نظرية التعقد، والمدخل الأساسي لفهم خاصيّة التعقد في حدّ ذاتها، لكنه يعتبر أنه ليس مفاجئاً عدم وجود تعريف بسيط يحظى بإجماع الباحثين، كون المفهوم لا يزال قيد التطوير في حقل العلاقات الدولية، وعابراً للتخصصات، لذا تتم الإحالة إلى فحص خصائص الأنظمة المعقدة، لكن ذلك لا يحجب حقيقة أن التعقد هو جوهر وليس طارئاً، وهذا ما يطرح مناقشة ثلاثة افتراضات أساسية تقوم عليها نظرية التعقد في حقل العلاقات الدولية، تتمثل في اللاحتمية واللاتعيُّن، وعدم القابلية للتفكيك، واللاخطية، انطلاقاً من الافتراض أن التفسيرات السببية ينبغي أن تكون حساسةً للتعقد المتزايد الذي دائماً ما يجعل الأسباب في العالم الاجتماعي معقدة، كونها تعمل وتتفاعل ضمن مُركَّبات سببية، ولا تُعطى بوصفها متغيرات مستقلة بعضها عن بعض، إلى جانب التأثر بين الأسباب والنتائج، وانتفاء الحدود التقليدية بين الكُلّيات والأجزاء، حيث يمكن للكلّ أن يكون في الوقت نفسه جزءاً لكلٍّ أكبر منه، أو أن يصبح كذلك كلاً في حدّ ذاته.
يحاول الكتاب فتح نقاش جديد حول ممكنات التفكير على نحو بديل في طبيعة النظام الدولي
غير أن التركيز يجرى على خصائص النظام الدولي والأنظمة المعقدة المكونة من عدد كبير من العناصر التي يوجد تفاعل دينامي بينها، حيث تتسم مسارات التفاعل في الأنظمة المعقدة بالثراء والتعقد، وكل عنصر يؤثر في بقية العناصر ويتأثر بها، حيث تتميز الأنظمة المعقدة بأنها أنظمة مفتوحة تتفاعل مع البيئة التي تعمل فيها، وبوجود حلقات من التفاعلات، إضافة إلى أن التفاعلات تتميز بكونها لا خطية، بحيث إن الأسباب الصغيرة يمكن أن تكون لها نتائج كبيرة، والعكس صحيح، وهو ما يعدّ شرطاً مسبقاً لحالة التعقد، لذلك ظهرت وجهات نظر متنامية تسعى إلى مساءلة تسمية "الدولي" في حقل العلاقات الدولية، لأن تسمية العلاقات بين الدول أضحت أضيق من أن تتمكن من وصف الطيف الآخذ في الاتساع من الفواعل والتفاعلات التي ينبغي تغطيتها في الحقل المعرفي للعلاقات الدولية، ومن إبراز أشكال التحول الكيفي في طبيعة هذه الفواعل وقدراتها وأدوارها، علاوة على التعقيدات التي تنبثق عشوائياً وبشكل غير متوقع نتيجة التفاعل المستمر بينها. فضلاً عن بروز مفهوم "الحكم من دون حكومة" الذي صار أساساً لتصوّر مفهوم الحوكمة العالمية، كمفهومٍ إبستيمولوجي وأنطولوجي في الوقت نفسه، إذ يعبّر عن تحوّل في طبيعة الواقع الدولي، كما يعبّر عن تحوّل في الكيفية التي ينبغي وفقها تصور نظرية العلاقات الدولية، خاصة مع انتشار الفواعل غير الدوليين في السياسة الدولية بجميع أشكاله، الأمر الذي أسهم في زيادة حدّة عوامل الاضطراب وعدم الاستقرار أو البعد عن التوازن، الذي بات يتسم بها العالم بعد ولوجه الألفية الثالثة.
أهمية كتاب محمد حمشي "مدخل إلى نظرية التعقد في العلاقات الدولية" في أنه يحاول فتح نقاش جديد حول ممكنات التفكير على نحو بديل في طبيعة النظام الدولي، بوصفه نظاماً معقداً، ويبدي سلوكاً وشواشياً في غاية اللاخطية واللايقين، بغية تحسين فهم طبيعة النظام الدولي ونمط السلوك الذي يبديه، لكن الكتاب لا يخلو من التعقيد في مواضع كثيرة، ليس في أكاديميته العلمية الصارمة والجافة، بل في الأشكال والمخططات والبيانات التوضيحية أيضاً، كما أنه لا يولي اهتماماً بدور القوى العالمية المهيمنة، وخصوصاً الدول أو الدولة الأقوى عسكرياً واقتصادياً وثقافياً ودورها في رسم مسارات العلاقات الدولية وطبيعة النظام الدولي.