نصر أذربيجان الجديد يعمّق تحوّلات جنوب القوقاز
شنّت أذربيجان، قبل ثلاث سنوات، هجوماً عسكرياً واسعاً في إقليم ناغورنو كاراباخ، تمكنت خلاله من تحرير مناطق كانت تحتلها القوات الأرمينية نحو 30 عاماً، وأجبرت يريفان على القبول بوقف لإطلاق النار والاعتراف بكاراباخ جزءا من الأراضي الأذربيجانية. مع أن اتفاق وقف إطلاق النار وقتها لم يُنه بشكل كامل الصراع على الإقليم، إلآّ أنّه شكّل بداية لتحوّلات جيوسياسية كبيرة في منطقة جنوب القوقاز. بعد ثلاث سنوات من تلك الحرب، يأتي النصر الجديد الذي حققته باكو في هجومها الخاطف على الانفصاليين الأرمن في الإقليم في 19 سبتمبر/ أيلول الجاري، وأجبر الانفصاليين على الدخول في مفاوضات معها لتسليم سلاحهم وإعادة إدماج الإقليم في أذربيجان، ليُعمّق من تلك التحوّلات. لقد أفرزت الحرب الثانية وهجوم سبتمبر الخاطف الذي لم يستغرق أكثر من أربعة أيام تحوّلات جيوسياسية كبيرة في جنوب القوقاز، تعمل جميعها على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في المنطقة.
يتمثل التحوّل الأول في تعميق التحالف الأذربيجاني التركي الذي لعب دوراً أساسياً في تغيير موازين الصراع على كاراباخ لصالح باكو. وقد أحدث هذا التحوّل بالفعل آفاقاً جديدة أمام أنقرة لتعميق دورها المتنامي في تجارة الطاقة الإقليمية، ولتعزيز روابطها مع الدول السوفييتية السابقة الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى. سيكون مشروع فتح ممرّ زنغزور البرّي الذي سيربط أذربيجان بإقليم ناخيتشيفان وتركيا حاسماً في طموحات أنقرة لإيجاد رابط برّي مع دول منظمة الدول التركية. مع أن نجاح هذا المشروع لا يزال مرهوناً بإبرام اتفاق سلام شامل بين أذربيجان وأرمينيا ويواجه اعتراضاً إيرانياً، إلا أن النصر الجديد الذي حققته أذربيجان في هجوم سبتمبر يُعزّز فرص نجاحه.
مشروع التطبيع التركي الأرميني لا يُساعد أنقرة فحسب على تقوية موقفها الجيوسياسي الجديد في جنوب القوقاز، بل يُساعدها أيضاً في دفع أرمينيا إلى تقليص اعتمادها على روسيا
مع محاولة أرمينيا النأي بنفسها عن دعم الانفصاليين، وتركيز روسيا على أولوية التوصّل إلى حل كامل لملف كاراباخ يقوم على حقّ أذربيجان في فرض سيادتها عليه، فإن قدرة يريفان وطهران على تقويض مشاريع النقل والمواصلات في المنطقة أصبحت محدودة. في حين كانت يريفان تُراهن على هواجس طهران من مشروع ممرّ زنغزور للحفاظ على الوضع الحدودي الراهن مع إيران، فإن انهيار موقفها في كاراباخ يدفعها إلى إيلاء أهميةٍ للانخراط مع أذربيجان وتركيا لتجنّب العزلة في الوضع الجيوسياسي الجديد.
يتمثل التحول الثاني في التصدّع الكبير الذي أظهرته حرب كارباخ الثانية وهجوم سبتمبر في التحالف التاريخي بين روسيا وأرمينيا. في حين أن التحالف الدفاعي بين البلدين شكّل عائقاً كبيراً أمام أذربيجان لعكس موازين الصراع على كاراباخ لصالحها في العقود الثلاثة الماضية، فإن ميول رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، منذ وصوله إلى السلطة في عام 2018، إلى تعزيز العلاقات مع الغرب، والتشكيك بجدوى التحالف مع روسيا، كان من بين العوامل الأساسية التي دفعت موسكو إلى تغيير مقاربتها للصراع على كاراباخ وتبنّي موقف يتماهى، في الغالب، مع مطالب أذربيجان. من غير المرجّح أن تُفكر روسيا بالتضحية في تحالفها مع أرمينيا، ودفعها إلى الابتعاد عنها والاقتراب من الغرب، لكنّها تستخدم مقاربتها الجديدة لملفّ الإقليم وسيلةً لمعاقبة باشينيان على ميوله الغربية. يغيّر الوضع الجيوسياسي الجديد في جنوب القوقاز، بشكل جذري، من وظيفة التحالف الدفاعي بين روسيا وأرمينيا من تحالفٍ كان يهدف، في العقود الثلاثة، إلى الحفاظ على الوضع السابق في كاراباخ إلى تحالف يضغط على يريفان، للانخراط في الجغرافيا السياسية الجديدة في جنوب القوقاز.
قدرة إيران اليوم على مقاومة هذه التحوّلات الكبيرة في جنوب القوقاز أضعف
ويتمثّل التحول الثالث في الآفاق الجديدة التي أوجدتها تحوّلات الصراع على كارباخ أمام تركيا وأرمينيا لإعادة تطبيع علاقاتهما. في وقت استخدمت فيه أنقرة دعمها العسكري لباكو في حرب كارباخ الثانية للضغط على يريفان، من أجل الانفتاح على التطبيع معها، فإنها اليوم تستخدم تأثيرها على باكو وعلاقتها مع روسيا لتقديم نفسها طرفا داعما لإنهاء العداء التاريخي بين أذربيجان وأرمينيا وتحويل جنوب القوقاز إلى منطقة سلام. مشروع التطبيع التركي الأرميني لا يُساعد أنقرة فحسب على تقوية موقفها الجيوسياسي الجديد في جنوب القوقاز، بل يُساعدها أيضاً في دفع أرمينيا إلى تقليص اعتمادها على روسيا، والتفكير في مزايا التطبيع معها، خصوصاً على صعيد مشاريع النقل والمواصلات. كما يُساعد تركيا في تحسين علاقاتها مع الغرب، وتقليص قدرة الغربيين على استخدام الخلافات التاريخية التركية الأرمينية ورقة ضغط عليها.
أفرزت تحوّلات صراع كاراباخ أيضاً تحوّلاً جيوسياسياً رابعاً في جنوب القوقاز، جعل إيران لاعباً على الهامش في الجغرافيا السياسية الجديدة. إلى جانب مخاطر التهميش الجيوسياسي على صعيد علاقة طهران بريفان، وعلى صعيد مشروع الممرّ البري بين أذربيجان وناخيتشيفان، يزيد هذا التحوّل من ضعف إيران في التنافس الجيوسياسي مع تركيا على النفوذ في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى. كما يجلب تحدّياً آخر يتمثل في العلاقات المتنامية بين أذربيجان وإسرائيل. علاوة على ذلك، تحدّ الشراكة المتنامية بين تركيا وروسيا في جنوب القوقاز من الدور الجيوسياسي لإيران في المنطقة. مع ذلك، لا يزال إشراك إيران في المعادلة الجيوسياسية الجديدة في جنوب القوقاز ضرورياً لإنجاح عملية السلام بين أذربيجان وأرمينيا وتنفيذ مشاريع النقل والمواصلات. تبدو قدرة إيران اليوم على مقاومة هذه التحوّلات الكبيرة في جنوب القوقاز أضعف مقارنة بما كانت عليه قبل حرب كاراباخ الثانية في عام 2020.