نصال على النصال

01 فبراير 2024
+ الخط -

تكسّرت النّصال على النّصال في قرارة نفسي، حتى إنني صرتُ بالكاد أتعرّف عليها، وعلى ما تُحدثه فيَّ من أوجاع. لعلّي تآلفتُ معها على النحو الذي لم تعُد تسبّب لي إلا ذلك النوع من الحزن الخفيّ المستقرّ في قاع الروح إلى الأبد، بلا نزيفٍ يسيل ولا وجع يسري. بلا نُواح ولا صياح ولا دموع حتّى. وربما أيضاً، ويا لهوْل الفكرة، من دون شعورٍ بما أصبحَت تحتلّه في مساحة نفسي يوماً بعد يوم. تتمدّد الفكرة وأستسلم لها متخليةً حتى عن شغفي الكبير بالأسئلة المستحيلة!

ورغم كل النزيف الذي يتسرّب إلى يومياتي لحظة بلحظة، عبر الشاشات الصغيرة والكبيرة، نابعاً من أرض غزّة، ورغم كل الوجع الذي تحمله العيون الدامعة والحناجر المجروحة والآهات العميقة والنداءات المستمرّة، إلا أن الحزن الذي يستقر في قاع الروح أكبر من ذلك كله، ربما لأنه الحزن الذي لا يمكنه التآلف مع تلك الدماء ولا تلك الدموع ولا تلك الصرخات.

لا أعرف الآن إن كنتُ أكتبُ من واقع التجارب الخاصة الصعبة والمريرة، والتي لا بد أنني عشتُها في سياق تجربة الحياة الكبرى، أم من واقع الثقل الذي أشعر به طوال الأشهر الأخيرة الدامية، حيث الحرب هي خبزُنا اليومي، وخبرُنا الدائم، وعقبة كل مشروعاتنا الجديدة.. فكل ما نريد فعله ونخطّط له معلق على جدول الأمنيات بانتظار انتهائها.

صحيحٌ أن الحرب بعيدة في الجغرافيا ولكنها قريبة جدا في حياتي اليومية، فمن نراهم وقودَها هم أهلنا ووجوهُهم هي وجوهنا، وكلماتهم هي كلماتنا، رغم أن أوضاعهم فاقت قدرتنا على الاحتمال كما يفعلون هم بصبر ونبل. إذاً، هي حربنا نحنُ أيضا، لا يمكن الفكاك منها، ولا تبدو فكرة الهروب بأي شيء عنها سوى أنها بائسة تضاعف الألم بلا بارقة أمل. غزّة التي لم أرها إلا على الخريطة، أراني أعيشُ بين تفاصيلها ويوميّاتها ودقائقها منذ 7 أكتوبر، وكأنها واقعي الشخصي.

أعرفُ أن كثيرين مثلي، وأننا نحن الواقفون على أسوار الألم الفاصلة بيننا وبين غزّة نشعر بالخجل حتى من أحزاننا الصامتة ومن دموعنا المتحجّرة ومن جراحاتنا المستترة خلف جدران الأمن والأمان.

أعرف هذا وأكثر وأنا أمضي ويمضي معي كثيرون في التيه بحثاً عن معنى الإنسانية والأخوّة وأن تكون مجموعةٌ من الناس أمة واحدة. أعرف مثلاً أن كل ما نفعله، ونظن أننا نساعد به ومن خلاله أولئك الذين يكابدون كل الأوجاع الإنسانية الكبرى، مقطّرة خالصة موجزة وعميقة بطعم صهيوني مرير.

من الصعب جداً أحيانا تعريف الألم، أو تحديده ورسم ملامحه. من الصعب أحيانا الاعتراف به أمام الآخرين، والأصعب الاعتراف به أمام النفس، بعيداً عن الآخرين، أما المستحيل أن يكون هذا التعريف متعلقا بألم من تحبّ، ومن تشعر بمسؤوليّتك تجاهه، ومن تحاول أن تساعده فلا تستطيع، وتحاول أن تنتشله من ألمه فتقع في حفرة الألم حتى قبل أن تصل إليه لتمدّ يدَك بالمساعدة. وألم غزّة وأهلها من ذلك النوع الثقيل الذي حط بثقله علينا، فأشعرنا بعجزنا وبقلة حيلتنا وبهواننا على العالم كله، وأيضاً بأننا لا نستحقّ ما نحن فيه من أمان، ما دمنا غير قادرين على مشاركة من نحبّ به.

لستُ متأكّدة من شيء بشأن هذه الحرب المستمرّة منذ أربعة أشهر إلا قليلا، سوى أنها ستنتهي يوماً ما، لا بد أنها ستنتهي، لتتركنا في العراء التام. وتكشفنا على عارنا الكبير عندما عشنا بينما يموت إخوتنا على هذا النحو الحارق العلني الكبير.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.