07 نوفمبر 2024
"نزف الطائر الصغير"
يُمكنك القول إن هناك مقادير من نقصان المعقولية في بعض الوقائع في رواية الأردني قاسم توفيق الحادية عشرة "نزف الطائر الصغير" (منشورات ضفاف، مكتبة كل شيء، بيروت، 2017)، إذ ما الذي يجعل شابّا ناجحا في عمله، يتقن علوم الكمبيوتر من صغره، من أسرةٍ مترفة، منفتحا على الحياة، يرتضي لنفسه أن يغادر دعةَ العيش، فيعمل في تكبيل الدجاج المذبوح في مسلخِ لحومٍ في بلدةٍ نائية، بعد أن يسرق قطّاع طريقٍ سيارته. ويمكنك أيضا أن ترمي الرواية هذه، والتي حازت واحدةً من جوائز كتارا الخمس للرواية العربية المنشورة، أخيرا، بأن المنطق العام فيها لا يشتمل على مقادير كافيةً من الإقناع. لك أن تُؤاخذ هذا النص في هذين الأمريْن، غير أنك حين تفعل إنما تقيس الواقع الذي يصنعه العمل الأدبي على مقاس الواقع في خارجه. وهذا لا يصلح، عموما، في قراءة الأدب، ولا في استكشاف العالم الذي تقيمه الرواية، أي رواية. وأول البديهيّات هنا أن سؤال المتعة هو المطروح أولا في مقاربة أي نص، وتاليا مواطن التلقائية في مسار هذا النص، أي أن لا يكون مفتعلا، ولا تقصّدَ نافرا فيه. وهنا، يجوز الزّعم إن النجاح الأهم في رواية قاسم توفيق هو في فائض التلقائية والليونة في تتابع الوقائع فيها، وفي بساطة سردِها المتّصف أيضا بالبداهة والعفوية. وإلى هذا، ثمّة منطقٌ خاصٌ بهذه الرواية نفسها، يقوم على المفارقة، قيمةً جماليةً تنهض على التضاد مع المنطق المعلوم للأشياء، ومع طبائع الحياة المعتادة.
يحتكر السردَ في الرواية بطلُها، راوي وقائعها، عن نفسِه، وما يخوض فيه. الشاب زياد سعيد، المولود في يوم انهيار الاتحاد السوفييتي، في ديسمبر/ كانون الثاني 1991. هل من إيحاءٍ هنا إلى فقدان التوازن الذي كان عليه العالم؟ ربما. هل يعني هذا أن عتبةً هنا للرواية تُهيّئك لما ستصادفه من قلّة توازنٍ في خيارات زياد سعيد هذا؟ ربما. لقد بدا زائدا، عندما جاء ثالثا بعد أختٍ وأخ. هذا شعور والدِه غير المكترث بآلام مخاض زوجته، وهي تُعاني استعدادا لولادة طفلها، الكائن المجهري في رحمها. يروي زياد، بلغةٍ توحي بفكاهةٍ مستترةٍ، وتومئ بسخريةٍ من العالم، تفاصيل وجودِه في أحشاء أمه. ثم يطلّ على الدنيا في اليوم الذي أُسدل فيه الستار على أول تجربةٍ لنظامٍ اشتراكي، يقوم على أفكار ماركس وإنجلز ولينين. هل يُضمر هذا الأمر إيحاءً بأن فكرة العدالة الاجتماعية لم يعد لها من يحمُلها في العالم؟ ربما. يحضُر فقدان هذه العدالة في مطارحَ أخيرةٍ في الرواية، الممتعةِ في الذي تفاجئ به قارئَها صفحةً بعد صفحةً، عندما يأوي زياد سعيد إلى عالم "أبو الفهد" في بلدةٍ بعيدة، جنوبا، حيث مسلخُ الماشية والدجاج الذي سيعمل فيه، مدفوعا بروحٍ عابثةٍ، مُغامِرة، لا تُلقي بالا لبديهياتٍ في الحياة تقول بانشداد الإنسان إلى ما يُريحه، وهو الذي كان موظفا في بنك، والمنتسب إلى عائلةٍ عريقة، والمتزوّج من امرأةٍ بعد علاقة حب معها، وإن لم تعد مشاعر ذلك الحب على حالها. إنه يسأل نفسه ما إذا كان مصابا بالفصام. ويسأل أيضا: لماذا هجرتُ حياتي الماضية كلها، والتجأتُ لهذه الحياة؟.
ولكنه، هنا، في هذه البلدة، يشرب البيرة، كما كان يفعل، ويُحاور من حوله في شؤونهم، ويبحث عن متع الروح والنفس. ويحكي عن علاقة الحب بين واحدٍ ممن عرفهم هنا وابنة شيخ عشيرة، يُعثر عليها مقتولةً لاحقا. ويقرأ في دفتر فهد عن تجربته في سورية محاربا مع تنظيمٍ جهاديٍّ متطرّف، وممارسا الجنس مع سبايا هناك، ومخالفا "أبو الدرداء" أحد قادة تنظيمه. وحدها هذه المرويّات ما لا تكون بلسان الراوي الذي يُناط به السرد في النص كله، زياد سعيد، الذي يخطر إلى باله أن يغادر عمّان إلى العقبة في لحظة مزاجٍ خاص، بسيارته، ثم يُمضي أياما في فندق فاخر هناك، يتعرّف فيه على امرأةٍ متزوجة، لا تعرّفه باسمها الكامل، وإنْ تسرُد له تفاصيل منتقاةً عن حياتها، يُصاب باشتهائها، ثم يحبّها. تُغادره، وتبقى في باله. وفي عودته إلى عمّان، يسرقُه لصوصٌ يحاولون جزّ عنقه، لكنهم يكتفون بنزفٍ منه. ثم ينعطف السردُ إلى مواضع مثيرة في منطق الرواية الخاص بها، عندما يلوذ زياد سعيد بتلك البلدة، ويعمل في المسلخ، فتتداعى بسلاسةٍ شائقةٍ تفاصيلُ توحي بإيقاعٍ آخر صار عليه هذا الشاب، عندما يشارك في التظاهر ضد الحكومة، في غضون حراكٍ شعبي، وعندما يستشعر أن العدالة الاجتماعية منقوصةٌ في البلاد، وأن ارتحال فهد إلى الجهاد في سورية ليس خيارا إنسانيا، وأن الحب تُصادره في المجتمع قوىً ضاغطة.. وهكذا تتوالى مرسلاتٌ وفيرة في روايةٍ ليس في محله أن تُوجزها هذه المقالة بهذا الشكل المخلّ، ولا أن يُؤاخِذَها قارئُها، أعجبْته أم لم تُعجبه، بغير منطقها الداخلي الخاص.