نحو مرحلة عربية موحشة
الشائع أن الأنظمة العربية أعلنت انتصارها، في القمّة العربية أخيرا في جدة، على الربيع العربي، أبّنته الى غير رجعة، واحتفلت بصخب، بحضور أحد رموز تلك المرحلة، الذي حقّق أعلى الدرجات في القتل والتنكيل بواحدةٍ من أكثر الثورات زخما وتأثيرا في الوجدان العربي.
ليس الربيع العربي ما جرى تأبينه، فالشعوب، ورغم ما حلّ بها من كوارث جرّاء الثورات المضادّة، لم تعلن بعد هزيمتها واستسلامها، ويبدو أن نخب الحكم العربي أرادت الاستعجال للخروج من المنطقة الرمادية، حيث سكنت الثورات بسبب ظروف موضوعية وذاتية، توقّفت ماكيناتها، بدواعي الصيانة ربما، وتجديد خطوط سيرها، لكن التوقّف الفيزيائي لا يعني تعطّل المجتمعات العربية عن إنتاج الثورات، لأن الدوافع والمحفّزات ما زالت حيّة.
ما جرى تأبينُه، ولكن بشكل مؤقتٍ ومرحلي، التحاق العرب بعصر الإنسانية، من خلال كسر مسار الحرية وإجهاض حلم الديمقراطية، بأسلوب الصدمات القاتلة والوحشية إلى أبعد الحدود، وصناعة سردياتٍ جديدة عن النمو والتطوّر التي لا بد أن ترتكز على الاستقرار، وهذه يجب أن تسندها "دول" قوية تضرب بيدٍ من حديد، لذا فإن مقدّمات هذه السردية وفرضياتها الأساسية تقوم على أن كل ما جرى في المرحلة السابقة كان خارج سياقات ذلك التطوّر، بل ومعطّلا لآلياته ومخرّبا لقيمه، لكن وبدون فحص مدى صدقية هذه التوجّهات، فإن ذلك اعتراف بأن هذه الخلاصات أحد مخرجات ثورات الشعوب، وحالة اضطرارية ستلجأ لها النخب لتطمين الشعوب.
لكن هل حقّا هذه هي البدائل التي تتقدّم بها النخب الحاكمة بالفعل؟ الواضح أن نخب الحكم العربي، وبعد انكشافها المريع في نظر شعوبها، تسعى إلى صناعة معادلات جديدة تستطيع من خلالها إيجاد توازن قوى، بعد أن مالت الكفّة خلال العقد الماضي لصالح الشعوب، والتي صنعت بنضالاتها ودمائها خرائط طرق للخلاص من أنظمةٍ أثبتت الوقائع أنها باتت مجرّد عبء ثقيل على كاهل الشعوب التي تسعى إلى التغيير، في مواجهة تحدّياتٍ لا ترحم، ليس أقلّها الفقر ونقص الغذاء والماء، والقضية في الغالب لم تعد قضية حبّ هذا النظام أو كرهه، بقدر ما أصبحت جزءا من تحوّطات الشعوب لمستقبلٍ قريبٍ جدا، لا بل لمواجهة واقع متخم بالأزمات، لجوع زاحفٍ وعطشٍ متحقّق، وثرواتٍ يجري تدميرها، إن لم يكن بالقصف فبالتبذير والهدر والسياسات غير الرشيدة، باختصار، يمكن إدراج اعتراضات الشعوب العربية وثوراتها وانتفاضاتها، في خانة محاولة "تدبير" شؤون المستقبل.
الشعوب، ورغم ما حلّ بها من كوارث جرّاء الثورات المضادّة، لم تعلن بعد هزيمتها واستسلامها
ليس هناك سرّ مخبأ، الأنظمة العربية أعلنت برامجها وخططها للمرحلة المقبلة، وتحت عنوان فضفاض" التنمية والتطوّر" يتم التأسيس لمرحلة تفاهة، تغطّي على مطالب الشعوب بالحرية والديمقراطية، مرحلة يجهزون عبرها ملابس الكركوزات للشعوب، حيث الإقامة في هذه المرحلة، وبحسب المخطّطات، ستكون مديدة، لذا يتوجب الاستعانة بمصمّمين بارعين لحياكة موديلات كثيرة وبألوان مبهرجة، حتى لا تُصاب الشعوب بالملل" ألستم تريدون حرية ورفاهية" خذوا ما شئتم، ولا تقلقوا حتى حبوب الكيف سيتم تنظيم تسويقها وترويجها بعد أن بتنا مكتفين ذاتيا في إنتاجها وبنوعياتٍ تناسب المزاج العربي.
جرى تجهيز عُدّة هذه المرحلة بكثير من التخطيط والتفكير، بما يليق بصناعة مسار جديد ينقلب على مسار الثورات والحريات، فالفقيد "الربيع العربي" كان له وزن مهم في أوساط الشعوب العربية، والمذابح التي جرت في خضمه، وخصوصا في محطته السورية، كان لها تأثير عميق في وجدان الشعوب العربية، لذا لا بد من بديلٍ مناسب يستطيع محو كل ما سبق.
في هذه المرحلة، لن تبقى هناك مكانة للثقافة والقيم، بالأصل هذه البضائع متهمة بالوقوف خلف أحداث العقد الماضي، بل هي جزءٌ من عناصر المؤامرة على استقرار النخب الحاكمة وديمومتها، وبالتالي، لا بد من إحلال عناصر بديلة عنها، فبدل صناعة الكتاب سيكون هناك صناعة المهرجانات الغنائية، وبدل المثقف يجب زراعة نجوم الأكشن في الوعي العربي ونجمات التفاهة، عبر احتلالهم المشهد العام وتحويلهم إلى أيقونات وأفيون لتخدير الشعوب وإلهائها.
قتلت الثورات المضادّة الروح الوطنية، وصاغت بدلا منها الولاء للحاكم المستبدّ
يتدثّر سياق التفاهة الذي يُراد صناعته باستبداد الصين وروسيا اللتين تحلمان بعالمٍ لا مطالب للحرية فيه ولا للفردية، فلا فرد سوى الحاكم الذي هو صانع الحياة والازدهار وحتى الأحلام. لا تزعج نفسك. نحن نصنع لك كل شيء، بما فيه أحلام اليقظة التي سنوجّهها إلى مسارات غير مؤذية، بعد أن فشلتَ أيها العربي في إدارة أحلامك. المقصود من ذلك إعادة صياغة الوعي الجمعي عبر تشويهه، حتى لا ينتج فعاليات كالربيع العربي، وقد صار المجال السياسي محرّما على الشعوب، بحجّة تقوية الدولة في وجه الفوضى. أصبحت السياسة في مطابخ السلطة، ولن تكون سوى أوامر ومراسم وقرارات، جهة صانعة وجهة مطلوب منها التنفيذ، ومن يطالب بغير ذلك يعني أنه يريد استعادة الفوضى والخراب.
مطلوبٌ منا أن نفرح لزمن التفاهة القادم، وإلا فإننا رجعيون تكفيريون من خارج سياق التطوّر والعصرنة، وأول ركائز هذه العالم موت الوطنيات، فقد قتلت الثورات المضادّة الروح الوطنية، وصاغت بدلا منها الولاء للحاكم المستبدّ، بوصفه الخلاص، ليس الخلاص المستقبلي، بقدر ما هو الخلاص من براثن الموت.
ما يعزّي النفس أن الشعوب العربية ولّادة، وأنها لم تمت بعكس ما يعتقد الحاكم، وما حصل أن الأنظمة نفسها باتت مكشوفة، لم يعد إعلامها ينطوي على أحد. باتت منعزلة خائفة، حتى وهي تبطش. ورغم تراجع الشعوب، فإنها باتت تملك خرائط للوصول إلى قصور الحكم حينما يحين الأوان.