نجيب محفوظ... لماذا لا يتجاوزه الزمن؟
ما الواقع؟... هذا سؤال يزعم الجميع امتلاك إجابته، فيما تُخبرنا مآلات الإجابات الرائجة أنّ الواقع شيء آخر، غير المتخيّل. أحد تجلّيات العجز عن الإجابة ما حدث في ثورات الربيع العربي، فالأنظمة السياسية المستقرّة، رغم توفّر إمكانات رفع الواقع، لم تدرك واقعاً جديداً يحيط بها، في زمن مواقع التواصل الاجتماعي وقدرة أصحاب أفكار التغيير على تجاوز منافذ التوجيه الحكومية إلى حسابات ملايين المتابعين، فجاءت ثورات "فيسبوك" وأخلّت بتوازن العروش واستقرار الكروش، أمّا أصحاب الانتفاضات الشعبية، فقد مثّلوا جسرَ العودة للأنظمة التي أسقطوها للسبب نفسه، العجز عن تقديم إجابات عن سؤال الواقع، واقع الدولة، وواقع السلطة، وواقع الحكم، فتوقّف قطارهم عند حدود النفير، وحين استأنف حركته، كانت قضبانه أرواحهم، ملايين من البشر في تونس ومصر وسورية وليبيا واليمن والسودان ولبنان دفعوا حيواتهم وحرّياتهم واستقرار عائلاتهم ثمناً لعجز نُخَبِهم في الإجابة عن السؤال.
تتجدّد ذكرى نجيب محفوظ، وتدور الأسئلة بشأنه؛ الظاهرة والمشروع والمواقف السياسية والأيديولوجية، من دون نهاية. لا يتجاوز الزمن محفوظ، والأسباب أكبر من مقال أو مناقشة، لكنّنا نطمح إلى الكشف عن وجه من الوجوه، وهو هنا قدرة محفوظ المبدع على تقديم إجابة حقيقية عن سؤال "ما الواقع؟"، فإذا كان واقعنا يخضَع لأفكارنا، فإنّ ذلك لأنّ أفكارنا ليست تعبيراً عن واقعنا (كما أشار حسن حنفي يوماً)، وحين ينجح أحدنا في الإمساك باللحظة التاريخية، والتحقّق انطلاقاً منها يتحوّل ظاهرةً، أيّاً كان موقعه السياسي أو الأيديولوجي. هذا هو نجيب محفوظ، الذي نجحت رواياته في الكشف عن الجوهر الإنساني لتجربته الاجتماعية والسياسية، فجعلته "واقعياً" في أحواله كلّها، واقعياً وهو يكتب عن الواقع، وواقعياً وهو يكتب عن التاريخ، وواقعياً وهو يحتال بالرمزية، وواقعياً وهو يختبئ خلف التراث.
من هنا، رأى قُرّاءٌ من الاتجاهات كافّة أنفسهم في روايات نجيب محفوظ، كما استشعر نقّادٌ من الاتجاهات كافّة حاجتهم إلى الاشتباك مع نصوصه، وأحياناً معه، ووصفها ووصفه بـ"المروق"، الذي لم يتعمّده يوماً، ولم يقصد إليه سطراً، فهو عند قطاع من الإسلاميين صاحب رواية "كفرية" هي مؤهّلاته كلّها لنيل جائزة نوبل، جزءاً من مؤامرة كونية على الإسلام، وهو عند قطاع من اليساريين متشائم، يرصد واقعه من دون تقديم حلول ثورية، أو تحريض على التغيير الجذري، أو كشف حقيقي للصراع الطبقي، وهو يميني في إحدى القراءات، رغم رواياته التي تبشّر بالاشتراكية والعدالة الاجتماعية، كما أنّه على يسار الإسلام، وربّما الإيمان كلّه، رغم نفَسِه الصوفي الواضح في رواياته كافّة، وظلال تراثه الروحي في أدبه، التي رصدها الناقد محمد حسن عبد الله في كتاب تجاوز 300 صفحة بعنوان "الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ" (قباء للنشر والتوزيع، 2001).
يتجاوز أدب نجيب محفوظ عجز الأيديولوجيا عن فهم الوجوه المختلفة لواقعنا إلى قدرة الفن ورحابته وانحيازه لتقديم الإجابة كما هي، لا كما ينبغي أن تكون، وتأتي تصريحات محفوظ في إجاباته عن أسئلة محاورين أو أصدقاء لتكشف هذا الجانب من شخصيته، إذ يؤمن محفوظ (المتورّط في واقعه) بالعدالة الاجتماعية التي لا تتعارض مع حرّية الفرد، وبالأفكار الاشتراكية التي لا تتعارض مع الحرّيات والديموقراطية، وبالتدّين الذي يحمل أصحابه إلى التعبير عنه بالسماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس، من دون ضجيج أو كلام كثير، ومن دون أن يتعارض ذلك مع الأخذ بالعلم، لأنّ أيّ شعب لا يأخذ بالعلم ولا يدير شؤونه كلّها على أساسه لا مستقبل له بين الشعوب، كما كتب محفوظ في رسالته إلى الندوة التي نظّمتها مؤسّسة الأهرام تحت عنوان "نحو مشروع حضاري عربي". وهو هنا يقترب من "المشتركات" التي دفعت ملايين الشباب إلى الشوارع والميادين طلباً للحرّية والعدالة في ثورات الربيع العربي، التي لن يتجاوزها الزمن بدورها، وإن بدا الواقع غير ذلك في أحد وجوهه ودوراته.