نتنياهو ولعبة التفاوض
يصعب الجزم بما إذا كانت جولة التفاوض بشأن الهدنة لوقف الحرب على غزّة قد نجحت أم فشلت، فالمواقف الصادرة من الأطراف المشاركة وصاحبة الصلة تزيدنا حيرة. لكن المؤكد أن المراوغ الأكبر في حلقة التفاوض هو رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو، الذي يصعب تخمين حقيقة مواقفه التفصيلية حول القضايا المطروحة. لا يمكن الجزم بما يراه في كل قضية، فمتابعة الشأن الإسرائيلي وما يصدر من مواقف مختلفة من الجهات الأمنية والجيش وفريق التفاوض ومكتب نتنياهو لا يعطي إلا انطباعاً واحداً، هو حقيقة نتنياهو المراوغة التي لا تقول موقفاً واضحاً بشكل مباشر. وربما لا يوجد اتفاق في إسرائيل حول شيء بقدر الاتفاق بين جميع الأطراف أن نتنياهو لا يريد الصفقة. ولا تقتصر هذه المراوغة على موقف نتنياهو من مفاوضات التهدئة، بل على مجمل مواقفه التي جعلته رئيس الوزراء الأكثر خدمة في الموقع في تاريخ إسرائيل. إن مجتمعاً، مثل المجتمع في إسرائيل، بتعقيداته وهشاشته في الوقت نفسه، يتطلب مراوغاً ماهراً مثل نتنياهو يقول كل شيء ولا يقول شيئاً واحداً. ولكن، أيضاً، في هذا القول سوء تقدير لموقف نتنياهو الحقيقي في ما يتعلق بالحرب.
المؤكد أنه يريد الحرب بأي ثمن. لا يهمه موقف الجيش ولا تقديرات الأمن ولا النتائج ولا موقف الحكومة وأقطابها، بل إنه يريد الحفاظ على الحكومة، لأن وزراءها يصرخون أنهم يريدون الحرب ويرفضون أي صفقة، حتى لو أعادت لهم كل شيء، ولا يهم موقف الإقليم ولا الحلفاء في واشنطن. ما يهم هو الحرب ذاتها. يسهُل لمن يتابع تصريحات نتنياهو أن يدرك ذلك، فلا غاية له إلا أن تستمرّ الحرب، وأن يواصل تدمير غزّة. ليست القصة قصة رهائن ولا قدرات حركة حماس العسكرية، ولا هي انتصار أو استسلام، بل هي قصة حرب يجب أن تظلّ مستمرّة. يسهُل إدراك أن هدف نتيناهو الوحيد من الحرب هو الحرب ذاتها. لا هدف آخر له سوى استمرارها، وفي سبيل ذلك يسخّر كل شيء، حتى يمتد عمرُها أطول وأطول. بالطبع، ثمّة تحليلات كثيرة وراء هذا الموقف كلها تأتي في سياق رغبته في البقاء في الحكم، وعدم الخضوع لأي مساءلة، بعد أن تهدأ جبهة القتال، وهذا أيضاً بحاجة لفحص، لأنه ينتقص من حقيقة أفكار نتنياهو بشأن إنكار الوجود الفلسطيني، وبشأن استكمال طردهم خارج الجغرافيا. ويكشف النظر إلى حقيقة ما يجري أن المستهدف الحقيقي من الحرب هو الوجود الفلسطيني في غزّة، ويمكن بقليل من التفكير إعادة النظر في فكرة استبعاد مشروع التهجير واستكمال طرد سكان قطاع غزّة، على الأقل شماله (شمال الوادي)، لضمّه لإسرائيل في استكمال لمشروع النكبة. لم ينته الأمر بعد، وإن وضعت الفكرة في الأدراج، لكنها الأدراج الأقرب إلى اليد.
كذبة اليوم التالي ليست إلا جزءاً من خطط نتنياهو للضغط على غزّة من أجل مزيد من المعاناة
النقطة الثانية التي يجب الانتباه إليها في هذا السياق أن نتنياهو يستخدم المفاوضات بشأن التهدئة جزءاً من استراتيجيته في إطالة عمر الحرب. كتب الجنرال كلاوزفيتز إن الحرب واحدةٌ من طرائق الدبلوماسية. والمفاوضات بالنسبة لإسرائيل، وليس لنتيناهو فقط، جزءٌ من الحرب التي يرادُ لها أن تستمر ولا تتوقف. هكذا صار الأمر في أوسلو، وها هو يسير في مفاوضات التهدئة. تفاوض إسرائيل بشأن التهدئة وتواصل حربها. لعله تشرشل الذي قال لا يمكن أن تفاوض النمر ورأسك داخل فمه.
مرّة أخرى، لننتبه إلى أن الحديث عن الهدنة يشبه، إلى حد كبير، الحديث عن مفاوضات السلام أيام اتفاق أوسلو وما بعدها، هل تتذكّرون؟ كان الحديث عن عملية السلام أهم من السلام ذاته، وحين سئل أحد أقطاب الإدارة الأميركية وقتذاك، قال إن المهم العملية وليس السلام، فالمهم أن تستمر العملية والسلام يأتي لاحقاً. الحركة أفضل من السكون، كما تقول أمثال شعبية كثيرة، كما أن الطبيعة لا تحبّ الفراغ، والتفاوض من أجل السلام أفضل من عدم التفاوض حوله، على الأقل يصبح الناس يفكّرون بأن ثمّة سلاماً مرتقباً، حتى لو كان مثل "جودو" لن يصل أبداً. في أول عروض مسرحية بيكيت الشهيرة، خرج الناس بعد العرض المسرحي في باريس وظلوا واقفين على باب المسرح ينتظرون "جودو" الذي يعرفون أنه لن يأتي. هكذا يصير انتظار السلام أمراً محتماً، لأنه يعني صناعة الأمل.
يريد نتنياهو أن تكون الفوضى نتيجةً للحرب، لكنها الفوضى التي تتحكّم بها إسرائيل لتستمرّ في الضغط على الفلسطينيين
لا يختلف الأمر كثيراً، حين يتعلق بالهدنة أو التهدئة أو وقف الحرب. المهم أن يفكر الناس بأن هذا ممكن، وأنه قد يحدُث في أي لحظة. وعليه، التفاوض بشأن التهدئة بحد ذاته تهدئة، على الأقل ثمّة أمل يمكن انتظاره، هذا حال الناس في الخيام في غزّة وفي بقايا البيوت المهدومة من القصف، فهم ينتظرون أن يخرُج الدخان الأبيض ويعودوا إلى بيوتهم وتنتهي الحرب. وطالما هناك تفاوض على الهدنة فإنهم ينتظرون أن تتحقّق، المهم أن لديهم شيئاً ينتظرونه حتى لو شعروا ببعض اليأس أو بكثير منه، إلا أنهم يواصلون الانتظار لتحقيقه.
النقطة الأخيرة التي يمكن ملاحظتها، أن نتيناهو لا يريد أي وجود فلسطيني مؤسّساتي في غزّة، فهو لا يريد للسلطة أن تحكم غزّة أو تعود إلى غزّة، ولا يريد أي ترتيباتٍ فلسطينية خاصة توجد وفقها حركة حماس أو حركة فتح في غزّة. هو يريد الفوضى أن تكون نتيجة الحرب، لكنها الفوضى التي تتحكّم بها إسرائيل لتستمرّ في الضغط على الفلسطينيين. وبقدر ما أن هذه رغبة نتنياهو، للعالم تصورات مختلفة وبعيدة عن ذلك، لأن القطاع بعد هذه الحرب المنهكة والمتعبة بحاجة إلى استقرار اقتصادي وسياسي. أما نتنياهو فكذبة اليوم التالي ليست إلا جزءاً من خططه للضغط على غزّة من أجل مزيد من المعاناة. والفكرة الوحيدة التي يرفض نتنياهو مناقشتها وقف الحرب. لاحظوا أن الحديث يدور عن تفاصيل دقيقة، لا يكمن فيها الشيطان بالضرورة، لكنها تفاصيل لا تمسّ جوهر المشكلة المتمثل في احتلال قطاع غزّة والسيطرة على مداخله وهوائه وبحره كما حدوده البرّية. بالطبع، عودة النازحين والخروج من محور فلادلفيا وفتح معبر رفح وخروج القوات المحتلة من غزّة ذلك كله مهم، ومهمّ للناس، لكن أساس ذلك كله لا أن يكون على مراحل كما قسّمت إسرائيل الضفة الغربية إلى مناطق "أ" و"ب" و"ج"، بل أن تخرج مرّة واحدة من غزّة، وتترك المحاور والمعابر وترفع الحصار. أساس كل شيء كان الحصار القاسي الذي فُرض على غزّة قرابة عقدين. الأساس رفع الحصار وترك غزّة تتنفس الحرية بحرية.
وليس من عادة المرء أن يتمنّى أن يكون مخطئاً، لكنني كلما فكّرت في ذلك كله، تمنّيتُ أن أكون مخطئاً، وأن يخيب ظنّي.