ناصر الدين الأسد أم نعمت شفيق؟
طيبٌ أن تُستعاد، في غضون انتفاضة الطلاب الباهرة في الجامعات الأميركية انتصاراً لفلسطين، محطّاتٌ مضيئةٌ بالنضال الشبابي في الجامعات العربية، في سنواتٍ مضت، واجه فيها طلبة ناشطون قمعاً شديداً في مظاهراتهم واحتجاجاتهم المطلبية والسياسية، وتعرّضوا للاعتقال والعُسف. ومع استعادةٍ كهذه، أظنّها مطلوبةً من الصحافات العربية حاليا، يحسُن تذكّر أن أساتذةً ورؤساء جامعات وعُمداء وقفوا في الضفة الصحّ في تلك الأثناء، فيما استحقّت رئيسة جامعة كولومبيا، مصرية الأصل، حاملة الجنسيّتَين الأميركية والبريطانية، نعمت شفيق (62 عاما)، التقريع الذي رميْناها به، أخيرا، بعد طلبها تدخّل شرطة نيويورك لفضّ اعتصام مئات الطلبة في احتجاجهم على دعم الولايات المتحدة إسرائيل بالسلاح والمال، وعلى استثماراتٍ للجامعة في دولة الاحتلال. وإذ تتوفّر إضاءاتٌ ودراساتٌ وثّقت نضالات الطلبة في مصر والمغرب وتونس ولبنان (أمثلة)، لم تُحرِز مثلها ما شهدته الجامعة الأردنية في عمّان، وشقيقتها اليرموك في إربد، من حراكاتٍ طلابية، سيّما في السبعينيات والثمانينيات، قوبلت غير مرّةٍ بعنفٍ مشهودٍ من السلطات والأجهزة الأمنية. وتتيح مناسبةُ الإتيان الشديد الإيجاز عليها في هذه السانحة تَذَكُّر أداء رئيس الجامعة الأردنية، اللغوي والسفير والوزير، ناصر الدين الأسد، في أثناء ما سمّتها أجهزةٌ رسميةٌ في حينه "اضطراباتٍ طلابية"، وكان أداءً نمَّ عن مناقبيةٍ عاليةٍ في الرجل، وعن حسن إدارة، وعن حسٍّ بالمسؤولية، تماما على غير ما أقدمت عليه نعمت شفيق.
يقول الراوي العليم إن مظاهراتٍ طلابيةً اجتاحت الجامعة الأردنية في مطالع إبريل/ نيسان 1979، وكانت للتنديد باتفاقية السلام الموقّعة قبل أيام بين مصر وإسرائيل، وبالتزامن مع محاولة "جهاتٍ ما" تخريب معرض لوحات فنية وأعمال تراثية فلسطينية في ذكرى يوم الأرض، نظّمه الاتحاد الوطني لطلبة الأردن (غير المعلن). وقد بلغ الرئيس ناصر الدين الأسد في مكتبه صباحاً أن الطلاب المتظاهرين على وشك الاشتباك مع الشرطة، فجاء إليهم، وحاورَهم، ووعدَهم بأن تبتعد الشرطة عنهم، ثم تحرّك إلى الباب الرئيسي للجامعة، بعد أن تأكّد من ابتعاد الطلاب، فأصبح يتلقّى الحجارة الطائشة ويستنشق الغاز المسيّل للدموع الذي تطلقه الشرطة التي اقترب من تجمّعها عند الباب، ويُبلغهم بعدم السماح لهم بالتقدّم إلى داخل الجامعة، ومع اشتداد الجدال وشدّة تأثّره من الغاز سقط على الأرض، ثم حُمل إلى المستشفى. وعلى ذمّة الراوي: لو أن الرئيس الأسد تأخّر دقائق عن النزول إلى هذا الموقع لحصل صدامٌ وسالت دماء.
عشيّة ذلك النهار، يفصّل الراوي، كان مجلس عمداء الجامعة في اجتماعاتٍ تتأخّر ليلا، وحدث أن عميدا اقترح إرسال برقية باسم المجلس إلى الملك (الحسين) يعرب فيها عن ولائه، فردّ الأسد: "جلالة الملك غنيٌّ عن البرقيات مثل ما هو رئيس الجامعة غنيٌّ عن المزايدات". وعلى ذمّة الراوي نفسه، جاء طلابٌ إلى الأسد في مكتبه ليتحدّثوا له عن دوافع وطنية أردنية فيهم للاعتداء على المعرض (الفلسطيني) الذي أقامه زملاءُ لهم، غير أنه، بعد أن استمع إليهم، نصحَهم بعدم الخلط بين الوطنية والغوغائية، وقال لهم إن حبّهم الملك لا يجوز أن يعني كرههم فلسطين العربية، وأفضى في تفصيلٍ في هذا، فما كان من الطالب الذي تصدّر لذلك الحديث إلا أن صافح الرئيسَ باحترام واعتذر.
لم يتعلّم ناصر الدين الأسد (توفّي في 2015 عن 92 عاماً) في جامعات بريطانيا وأميركا، وهو التربوي المحافظ، وأحد رجالات الدولة الأردنية التقليديين، غير أن أجيالاً من الأساتذة والطلبة في الأردن (وغيره) تعرف احترامَه نفسه والمكانة الوازنة للمسؤوليات التي تولّاها. لم يستطع أن يمنع تدخّلات دائرة المخابرات في الجامعة، في زمن الأحكام العرفية والحرّيات المحدودة في الأردن، بتبريراتٍ أمنية، لمّا فُصل ستة أساتذةٍ في الجامعة (أحدهم وليد سيف) من عملهم، في ظروف الاستنفار الأمني البالغ في ذلك العام، ولمّا فُصل 20 طالبا من دراستهم (أحدهم ناهض حتّر). لم يستطع أن يصنَع الكثير (عاد الأساتذة والطلبة بعد حين) على هذا الصعيد، لكنه، في أيّ حال، صنَع لنفسه اسماً نظيفاً في أثناء تظاهرات طلبةٍ ساخطين في جامعةٍ ترأسّها في بلدٍ لا يأخُذ بالديمقراطية في الحكم، على غير الفعل المُخزي الذي صنعته نعمت شفيق في بلد ديمقراطي، وهي التي درَست ودرّست في جامعاتٍ في الغرب المتقدّم.