ميشيل كيلو .. تيار وطني بشخصه وشخصيته

24 ابريل 2021
+ الخط -

منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، شهدت الصحافة اللبنانية، وبالذات صحيفة السفير، ظهور كتابات سياسية ناقدة للوضع السوري بقلم ميشيل كيلو. وكان يُحسب لتلك الصحيفة أنها، على الرغم من علاقتها الوثيقة بالنظام في دمشق، فإن صفحاتها اتسعت لهذه الكتابات التي كان يدوّنها كيلو من باريس أولاً، التي لجأ إليها في أواسط السبعينيات بعد تجربة اعتقال قاسية، على الرغم من أنها لم تدم سوى أشهر، ثم من دمشق دائما وباستمرار، عقب عودته إلى بلاده في تلك الفترة. ومنذ ذلك التاريخ، لم يتوقف الرجل عن حمل قضية شعبه ووطنه، ونذر قلمه وجهده لخدمة هذه القضية بغير كلل أو وهن. وكان النظام في تلك الفترة يحظى بأوسع دعم من الأحزاب "الوطنية والتقدمية واليسارية والقومية" في مشرق العالم العربي ومغربه باستثناءات قليلة، وذلك نتيجة الإعجاب بخطابه اللفظي التقدّمي الممانع، وبصرف النظر عن تعامل هذا النظام مع شعبه، ومع غض النظر عن دخوله مثلا في حرب الخليج بقيادة الولايات المتحدة أو وقوف النظام قبل ذلك مع اليمين اللبناني، ومع من شنوا الحرب على مخيمات لبنان، والتحالف مع إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية، بدل الوقوف موقفا محايدا مثلا من تلك الحرب والدعوة إلى وقفها. وكان كيلو من الأصوات اليسارية القليلة التي تكسر حالة شبه الإجماع هذه، وتقف في وجهه، انطلاقا من مبادئ جوهرية، أهمها أن الاستبداد العاري (بغير قناع!) لا يمكن أن يكون برهانا على التقدّمية، وأن تعميم الطغيان يدلّ على أن صراع النظام هو مع شعبه، قبل أي قوى خارجية.

وإذ بدأ ميشيل كيلو حياته السياسية بالانتساب للحزب الشيوعي بقيادة خالد بكداش، فقد كان من الطبيعي، مع تفتح شخصية الرجل ونفوره من النموذج الستاليني للأحزاب، أن يخرج من الحزب عبر الانشقاق الذي قاده رياض الترك في العام 1972، حيث حمل التيار اسم الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي. وفي تلك الفترة، رفض كيلو فكرة الجبهة الوطنية التقدّمية التي ضمّت أحزابا جرى تهميشها ضمن هذه الجبهة، حيث أصبحت ظلاً وتابعاً لحزب البعث "قائد الدولة والمجتمع". وهو ما أدى إلى اعتقال كيلو، علماً أن مجموعة الترك لم تنضم، بطبيعة الحال، إلى تلك الجبهة، وشكّل موقفها هذا سبباً رئيساً للانشقاق عن مجموعة بكداش (انشقّت مجموعة ثالثة بقيادة يوسف فيصل).

امتاز كيلو بنزعة ديمقراطية جعلته في نفور تكويني مع الانضواء في حزب شمولي، حتى لو كان على قدر كبير من الانفتاح مثل تيار الترك

على أن كيلو امتاز أساساً بنزعة ديمقراطية جعلته في نفور تكويني مع الانضواء في حزب شمولي، حتى لو كان على قدر كبير من الانفتاح مثل تيار الترك، الذي اتخذ في ما بعد اسم "حزب الشعب الديمقراطي". ولهذا، لم يمكث كيلو طويلا في الحزب، وظلت علاقته بالترك تتسم بمزيج من التوتر والود والاحترام المتبادل. بل إن كيلو لم يقطع مع نزعة إصلاحية، فقد كان جهده يتجه إلى الدعوة إلى إصلاح النظام، وحثّه على السماح بتعدّدية حزبية وسياسية فعلية. وهو ما لم يكن ممكنا، نظرا إلى بنية النظام المغلقة. ومع خروجه من الحياة الحزبية، نشط كيلو على مستوى التواصل المباشر مع شخصياتٍ وقوى اجتماعية وثقافية، تؤمن بمدنية الدولة (التوقف عن عسكرتها أو أمننتها)، ويُعدّ من الأسماء البارزة التي لعبت دورا مشهودا في تشكيل المجتمع المدني الوليد، والذي كان يتعرّض لمراقبةٍ أمنيةٍ كثيفة. ومع حلول حقبة التسعينيات، بات كيلو يكتسب أكثر فأكثر موقعه في يسار الوسط، أو الليبرالية ذات الوجه اليساري، وذلك وفاءً لجذوره وقناعاته التي شهدت قدرا من التحوّل في ظروف انهيار النموذج الاشتراكي، وانكشاف الوجه الاستبدادي للأحزاب الشيوعية الحاكمة التي كانت في قطيعة مع شعوبها. والحال أن أعداداً لا تحصى من اليساريين والقوميين العرب قد انفتحوا، في تلك الفترة، على المفاهيم الليبرالية، بل وأخذوا بالشطر الأكبر منها، وكان كيلو من بينهم.

وعلى الرغم من أنه كانت للرجل اهتمامات فكرية أصيلة، تشهد على ذلك كتبه المترجمة، إلا أنه اندفع إلى العمل السياسي المباشر، واتخذ من الكتابة وسيلةً رئيسية لنشاطاته إلى جانب ديناميته التواصلية في الحوار والتفاعل مع ممثلي مختلف المكونات السياسية والفكرية في بلده. وهو ما أكسبه سمت الشخصية المحورية في كل نشاط أو تحرّك، على محدودية تلك الأنشطة والتحرّكات، ومنها على سبيل المثال منتدى جمال الأتاسي، بسبب القمع المنهجي والفوري والشامل لها. وبفضل الديناميكية التي تمتع بها، ولصفات شخصية تجمع التواضع بالحيوية والانفتاح على الآخرين، بمن في ذلك شخصيات من النظام، ولدوره الجسور في الدفاع عن الحريات، حيث شغل منصب رئيس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، فقد اكتسب الرجل وزنا اعتباريا متناميا. وهو ما يفسّر الشعور بالصدمة لدى السوريين، حتى لدى بعض المختلفين معه، بغيابه.

قبل أن تهبّ رياح الربيع العربي، كان يهجس بالتغيير، ويدعو إليه بتعبير ضميري، بعيداً عن النزعة الانقلابية

وعلى الرغم من الوزن المعنوي الكبير الذي أخذ ميشيل كيلو يحظى به في الداخل والخارج، وبالذات في الداخل، إلا أن ذلك لم يمنع النظام من إعادة اعتقاله في العام 2006، وهو في عمر السادسة والستين، بتهمة "إضعاف الشعور القومي"، وهذه التهمة الكاريكاتيرية منصوص عليها في قوانين العقوبات السوري، والتي تصلح لإلصاقها ليس بالمعارضين فحسب، بل بأي صوت ناقد، حتى لو كان من داخل النظام. وقد مكث ثلاث سنوات في السجن، علما أن التهمة الفعلية هي دور كيلو في ربيع دمشق القصير، ثم "إعلان دمشق"، حيث تم اعتقال أغلبية الموقعين على ذلك البيان الذي أمل أصحابه أن يستخلص النظام الدروس، وأن ينفتح على الإصلاح. وكانت فترة السجن ذات تأثير حاسم عليه، وعلى مزاجه السياسي، بعدما أصيب بخيبة أمل عميقة من إمكانية التغيير، وعلى وضعه الصحي. ومع خروجه من محبسه، التقط أنفاسه، واستأنف حضوره في المجالين، الثقافي والإعلامي، بالتدريج، وأصبح اسمه، إلى جانب آخرين، رمزا لأشواق التغيير في وطنه. كما عاد إلى كتابة مقالاته السياسية الناقدة، على الرغم من العسر الذي عاشه إثر واقعة سجنه. وقبل أن تهبّ رياح الربيع العربي، كان يهجس بالتغيير، ويدعو إليه بتعبير ضميري، بعيدا عن النزعة الانقلابية، وحتى عن النزعة الراديكالية. وكان إلى جانب شخصياتٍ مثل حسين العودات وأنطون مقدسي وفايز سارة وحسن عبد العظيم ورياض الترك وعبد العزيز الخيّر والطيب تيزيني وعارف دليلة وبرهان غليون وصادق العظم وجورج صبرة، وغيرهم من الرموز الفكرية والوطنية التي تمسّكت بحق شعبها السوري في أن ينعم بحياة طبيعية آمنة، في ظل دولة مدنية تسودها قوانين عصرية. وما أن خرجت أولى المسيرات الاحتجاجية في درعا ودمشق في مارس/ آذار 2011، حتى كان ميشيل كيلو، إلى جانب غيره، ينشط سياسياً، داعياً النظام إلى اهتبال الفرصة لحوار جدّي مع مكونات الحياة السياسية والفكرية، بغية الشروع بخطوات إصلاحية واسعة، وهي الفرصة التي رفضها النظام وضاعت، وكان يمكن ان تُنجي سورية وشعبها من الوضع المريع الذي تفاقم بعدئذ. ولهذا، من الطبيعي أن يبدو كيلو تياراً وطنياً عاماً بشخصه (بمفرده)، وبشخصيته السياسية والكفاحية الغنية، وأن يخلّف رحيله شعورا عميقا بمرارة الفقد، يضاهي شعور ميشيل نفسه بالخسران جرّاء الكارثة التي أحاقت بشعبه، وهو ما عبّرت عنه أحاديثه الأخيرة ووصيّته من مشفاه الباريسي، قبل أن يوافيه الأجل يوم 19 إبريل/ نيسان الجاري.

محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.