موقف رسمي مغربي دون المستوى المطلوب

25 أكتوبر 2023

مغاربة يهتفون في الرباط من أجل غزّةويطالبون بوقف التطبيع مع إسرائيل (17/10/2023 الأناضول)

+ الخط -

ما زال الموقف الرسمي المغربي مما يجري في غزّة المنكوبة من جرائم ضد الإنسانية ترتكبها إسرائيل منذ 20 يوما بدون توقف دون المستوى المطلوب سياسيا من دولة مثل المغرب، ولا يشرّف عشرات الآلاف من المغاربة الذين يخرُجون يوميا للتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لأبشع إبادة جماعية ترتكبها إسرائيل تحت غطاء أميركي غربي صريح، وبهدفٍ واضحٍ ومُعلن، هو القضاء على القضية الفلسطينية التي يعتبرها أغلبية المغاربة قضيّتهم الوطنية التي لا تقلّ شأنا عن قضاياهم الوطنية الأساسية. أما الأصوات النشاز التي يعبّر عنها بعض المتملّقين والمطبّعين والمتواطئين والخانعين والمتصهينين المغاربة فلا أثر لها في الشارع المغربي، ولا علاقة لها بالموقف الشعبي الذي تعبّر عنه الجماهير التي تخرُج في مدنٍ وقرى مغربية وملاعب رياضية عديدة للتنديد بالجرائم الإسرائيلية، وهي أبعد ما تكون عن تمثيل الضمير الجمعي المغربي الذي لا تخطئ بوصلته في إرشاده، خلال الأوقات العصيبة، للاصطفاف إلى جانب الحقّ.

كان تبرير المغرب الرسمي قرار التطبيع مع إسرائيل موقفها من قضية الصحراء، وبالرغم من أن هذا الموقف ينم عن أنانية حتى لا أقول انتهازية، فهو أكثر من ذلك لا أخلاقي، لأنه يضع قضية وطنية مقابل قضية شعبٍ يعاني من الاحتلال والاستيطان واللجوء والتشريد منذ 75 سنة، ويتعرّض لأبشع أنواع التقتيل والاضطهاد والإجرام والعنف والتعذيب والاعتقال منذ عدة عقود. يسيءُ مثل هذا التبرير لقضية الصحراء التي يعتبرها المغاربة قضيتهم الوطنية الأولى، لأن الدفاع عن عدالة قضية ما لا يحتاج شهادة مجرم حرب وسياسي فاسد يلاحقه قضاء بلاده، مثل نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرّفة للاعتراف بها، وبالأحرى الدفاع عنها، ثم ما هي القيمة المضافة التي قدّمها اعتراف إسرائيل بـ"مغربيّة الصحراء"، لهذه القضية التي ما زالت تراوح مكانها منذ أكثر من أربعة عقود ونصف العقد؟!.

الشارع المغربي عبّر، في أكبر استفتاء شعبي مفتوح، من خلال مسيراته التضامنية الحاشدة، عن رأيه الرافض للتطبيع الذي فُرض عليه، وطالب الدولة بقطع علاقاتها مع إسرائيل

مسؤولية الدولة المغربية السياسية والأخلاقية حيال ما يجري في غزّة، تبرُز هنا بقوة وبوضوح. أولا، لأن العاهل المغربي هو رئيس لجنة القدس، والقدس اليوم في قلب المعادلة التي تدور حولها حرب الإبادة التي تقودها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الأعزل. وثانيا، لأن الشارع المغربي عبّر، في أكبر استفتاء شعبي مفتوح، من خلال مسيراته التضامنية الحاشدة، عن رأيه الرافض للتطبيع الذي فُرض عليه، وطالب الدولة بقطع علاقاتها مع إسرائيل. وثالثا، لأن الدولة المغربية نفسها عندما أرادت تبرير قرار التطبيع قالت إن علاقاتها مع إسرائيل ستجعلها قادرةً على نصرة القضية الفلسطينية من موقع أكثر تأثيرا، ألم يقل وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، في أحد تصريحاته، إن مكتب الاتصال المغربي في تل أبيب تدخّل مرّة لإنصاف بائع خضار فلسطيني متجوّل صادرت سلطة الاحتلال الإسرائيلي عربته اليدوية التي كان يعرض فوقها بضاعته! اليوم تُصادر إسرائيل كل شيء من الفلسطيني، تُصادر حياته وأرضه وحقّه في الوجود وفي العيش والتنفس تحت سماء الله الواسعة، فأين هو دور "المساعي الحميدة" الذي كان رئيس الدبلوماسية المغربية يتبجّح به لتبرير هرولته نحو التطبيع، أم أن هذا الدور ينحصر فقط عند مستوى التوسّل لإنصاف بائع خضار؟!

المواقف الرسمية المغربية المعبر عنها علانية سواء في البيانين الرسميين الوحيدين الصادرين عن الخارجية المغربية، أو من خلال الكلمة التي ألقاها وزير خارجية المغرب أمام قمّة القاهرة للسلام، السبت الماضي، لا تتسق مع المسؤولية السياسية والأخلاقية التي يتحمّلها المغرب الرسمي، بل تعتبر مُخجلة، بما أنها تساوي بين الضحية والجلاد، وتتحدّث عن "اعتداءات"، كما لو كان الأمر يتعلق بـ"مناوشات" بين طرفين متنازعين، فيما الواقع أن ما يحدث هو حرب إبادة ممنهجة ومعلنة ضد شعبٍ مظلومٍ وقضية عادلة. وهي في المجمل مواقفُ لا ترقى إلى مواقف المغرب السابقة، عندما أعلن إغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي في الرباط عام 2001، بسبب الجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، ولا ترقى إلى مستوى الخطاب الرسمي المغربي نفسه الذي عبّر عنه الملك محمد السادس في رسالته إلى نتنياهو، في يونيو/ حزيران الماضي، والتي يتحدّث فيها عن "تعزيز آفاق السلام لفائدة جميع شعوب المنطقة"، فهل من شأن ما تقوم به إسرائيل اليوم من جرائم ضد الإنسانية في حق الشعب الفلسطيني أن يعطي بارقة سلام وبالأحرى تعزيز آفاقه؟.

مطلوب من المغرب الرسمي موقف واضح وشجاع وسبّاق، قبل أن يصبح بدون جدوى وبلا معنى، وقف كل أشكال التطبيع

والمسؤولية هنا يتحملها كذلك كل مسؤول حكومي وبرلماني مغربي لا يستطيع أن يرفع صوته لاستنكار هذه التزكية الرسمية المغربية للجرائم الإسرائيلية من خلال استمرار علاقات التطبيع مع الكيان الصهيوني. أما الاختباء، في هذه الحالة، وراء واجب التحفّظ والمصلحة الوطنية العليا، إذا لم يعنِ مباركة السياسة الرسمية المتخاذلة في نصرة القضية الفلسطينية، فلا يمكن تفسيرُه سوى بالخوف والجبن! كيف لا، وقد رأينا أنه حتى داخل الإدارة الأميركية، ومن قلب وزارة الخارجية خرجت أصوات شجاعة تستنكر سياسات بلادها المنحازة لإسرائيل، كما هو شأن الموظف في الخارجية الأميركية جوش بول، مدير الشؤون السياسية والعسكرية في الوزارة، الذي استقال من منصبه بسبب تعامل إدارة رئيس بلاده مع حرب الإبادة في غزّة. وفي الجارة الإسبانية ارتفع صوت سيدة محترمة، هي إيوني بيلارا، وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية، التي لم تكتف فقط بإدانة ما تفعله إسرائيل في قطاع غزّة من أفعال وصفتها بأنها "جريمة حرب وإبادة جماعية مبرمجة"، وإنما طالبت حكومة بلادها بقطع علاقاتها مع إسرائيل وطرد سفيرها من مدريد. فمتى ترتفع أصوات شجاعة من داخل الحكومة ومن تحت قبّة البرلمان تطالب المغرب بمواقف أكثر وضوحا وحزما لإنهاء تطبيعه مع دولةٍ محتلّةٍ غاصبةٍ قاتلةٍ ومجرمة؟! فمعادن الناس تكشفها مواقفهم الشجاعة في اللحظات الفارقة والحرجة.

مطلوبٌ من المغرب الرسمي اليوم موقفٌ واضحٌ وشجاعٌ وسبّاق، قبل أن يصبح بدون جدوى وبلا معنى، وقف كل أشكال التطبيع مع إسرائيل، وإغلاق مكتبها في الرباط، واستدعاء ممثل المغرب في تل أبيب، ليرسل رسالة واضحة إلى حكومة الحرب في تل أبيب إن التطبيع لا يمكن أن يُستعمل غطاء لتبرير جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، وإن السلام الذي ارتُكبت باسمه اتفاقات التطبيع المُخزية اغتالته إسرائيل. أما حالة الركون إلى الصمت المخجل فهو قبول وتزكية، حتى لا أستعمل توصيفا قاسيا، للجرائم البشعة التي تنفذها إسرائيل ضد المدنيين الأبرياء داخل غزّة المحاصرة.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).