موسيقى فلسطين وغناؤها قبل النكبة
لا يجوز أن نتوقّف عن معرفة فلسطين أكثر وأكثر، أرضا وناسا واجتماعا وسياسةً وثقافةً وفنونا. ولمّا هي ذكرى نكبتها في هذه الأيام، فإني ألتقط في المناسبة كتابا، اجتمعت فيه خمس دراساتٍ، جالت في بعض موسيقى فلسطين وغنائها قبل عام الاحتلال الأول ونكبتها المستمرّة، 1948، وبعده. أنجزها الأشقّاء الثلاثة، إلياس سحّاب وسليم سحّاب وفكتور سحّاب، ونُشرت متفرّقةً سابقا، ثم بادروا إلى أن يضمّها هذا الكتاب، الشائق حقّا، بعنوانه "الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1948 وبعدها" (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021). وليس من ادّعاءٍ هنا، ولا زَعم الكاتبون المجدّون، إن هذا الكتاب ألمّ تماما بمشاغله، أو إنه غير مسبوقٍ في مباحثه. وإنما قيمتُه الأوضح حاضرة في فائض الكثافة العلمية في فصوله، وفي حسن إيجازِه مقولاتِه، وكأنه خلاصاتٌ يبسُطها إلياس وسليم وفكتور، ممتلئةً بأهم ما يَحسُن أن يُعرَف عن الموسيقى والغناء في فلسطين، ألحانا وأغنياتٍ شعبية ورقصاتٍ وآلاتٍ موسيقية، بتقسيماتٍ وتصنيفاتٍ لهذه كلها، في هذه الدراسات التي تتّصف بالحذاقة وغزارة المعرفة. وقد أنفق في واحدةٍ منها الموسيقار المايسترو سليم سحّاب (1941) جهدا متينا في "تحليل ألحان الغناء الشعبي"، على المستوى الإيقاعي، من حيث القوالب اللحنية، والأشطر والشكل الشعري والتقسيمات والوزن العروضي. ودوّن، وهو عالم الموسيقى الأريب، النوط الموسيقية للموّال والعتابا والميجنا والدلعونا ويا ظريف اللون والجفرة وع اليادي وع العميم وع العمام ويا حنينا ومرمر زماني وأبو الزلف وجملو وأسمر اللون ومشعل والزغرودة .. إلخ.
كتب سليم سحّاب عن هذا كله فيما يتعلق بألحان الغناء الشعبي في فلسطين قبل 1948، أما إلياس سحّاب (1937) فكتب عن هذا الغناء نفسِه، وأفاد بأن سهولة تحديد موقع انتشار أي أغنيةٍ شعبيةٍ لا تقابلها بالضرورة سهولةٌ مماثلةٌ في تحديد موقع المنبع الأساسي لها، ولهذا القالب الغنائي الشعبي أو ذاك. وما ينتهي إليه الباحث أن الموسيقى الشعبية الفلسطينية المتداولة في القرنين الأخيرين "عربية مشرقية، تمتاز، بشكلٍ عام، عن الموسيقى الشعبية المصرية بأنها أكثر حيويةً وتوتّرا، وأقلّ ليونةً وانسيابا". ويعرض إلياس سحّاب نماذج الغناء الشعبي في فلسطين، بنوعيْه، المنفرد لفنان شعبي والآخر الذي يتداوله الناس. ومن الأول يشرح عن الحدّاء، الشاعر الشعبي، النوّاحة. وينقل عن الباحث يسري جوهرية الأغراض الثمانية الأساسية للغناء الشعبي. ويعرّف بأغاني الاحتفالات الدينية، وأغاني العمل وأغاني الأرض وأغاني البنّاءين وأغاني الصيادين، وذلك كله بدقةٍ ظاهرة. وتقرأ عن هذا كله بعد أن يعرّفك إلياس سحّاب نفسُه في دراسته عن الرقص الشعبي، في عرضٍ شاملٍ لأنواعه: الدبكة، السامر، السحجة، ورقصاتٍ نسائيةٍ، مدينيةٍ وقرويةٍ، وكذا حلقات الدراويش، ورقصات الخيول والجِمال، ورقصة السيف.
ولمّا كانت هذه الدراسات الثلاث قد نُشرت في "الموسوعة الفلسطينية" (دمشق 1990)، فإن السّمت المدرسي، إلى حدّ ليس قليلا، ظاهرٌ فيها، لجلاء تسميات الأغاني والموسيقات والألحان وأنواعها وألوانها، وبضبطٍ عالي المنهجية، لا يغيب أيضا عن دراستين أُخريين، ضمّتهما الموسوعة سابقا، وهما "الموسيقى المحترفة"، أنجزها إلياس سحّاب، أفاد فيها بأن نكبة 1948 جاءت تقطع سياق "تطوّرٍ طريّ العود" لاحتراف الموسيقى في فلسطين، في القدس وحيفا ويافا خصوصا. ويقول إن في الإمكان قسمة تاريخ الموسيقى المحترفة في فلسطين إلى ما قبل إذاعتي القدس والشرق الأدنى وما بعدهما. ويورد نُبَذا عن أشهر الموسيقيين في فلسطين في أوائل القرن العشرين، وصولا إلى ما صار مما يسمّيها الباحث "بؤرا موسيقية"، كان كل منها مصدر إشعاعٍ فني يتخرّج منها موهوبون في التلحين والغناء والعزف، ويورِد بعضَها، وذلك بعد طوْر من الاتصال بالغناء العربي التقليدي القادم من مصر وحلب. والدراسة الأخرى عن الآلات الموسيقية في فلسطين، أنجزها سليم سحّاب، تأتي على الآلات الوترية، وآلات النفخ، وآلات الإيقاع، بشرحٍ عن تقسيماتها (الرّباب، العود، القانون، البوق، الدفّ، الناي، المزمار، .. إلخ).
يكتب فكتور سحّاب عن الموسيقى في فلسطين بعد 1948، قبل أن يختم بورقةٍ عن الغناء في فلسطين قبل النكبة، لمّا كان "القُطر الفلسطيني" ملتقىً لمجموعاتٍ من فناني القُطر المصري وفناني أقطار المشرق العربي. ويؤكّد هنا أن فلسطين جزءٌ أصيلٌ من حيث الثقافة الشعبية، من الوطن العربي في جناحه الشرقي .. وإلى هذا كله، ثمّة كثيرٌ في هذا الكتاب البهيج تعذّر المرور عليه أعلاه.