موت اليسار على يد العجوز بايدن والشاب ماكرون
يمكن توقّع فوز كاسح لمرشّح أقصى اليمين الأميركي، دونالد ترامب، من دون أن تحتاج إلى خبراتٍ كبيرةٍ في لوغاريتماتِ اللعبةِ الانتخابية، ومن دون أن تبذل جهدِاً كثيراً في تحليل أداء منافسه الرئيس الحالي، جو بايدن.
ليس فوزُ ترامب المتوقّع مرتبطًا بمدى قوّةِ معسكره وضعف المعسكر الآخر، كما أنّه ليس مبنيًّا على جدارته وإمكاناته الشخصية، مقارنةً بإمكانات مرشّح اليسار الديمقراطى، جو بايدن، كما لا يمكن البناء على أنّ انخراط الرئيس الحالي في الجريمةِ الصهيونية ضدَّ الشعب الفلسطيني سوف يُفقده كتلةً كبيرةً من الأصواتِ التي ستذهب إلى خصمه الجمهوري، ذلك أنّ انحيازاتِ ترامب إلى الكيان الصهيوني ودعمه المطلق جرائم الاحتلال أكبر بكثير من مثيلاتها عند بايدن.
تعودُ المسألة إلى تراجع تيّار الوسط في العالم كلّه، ليس لأنّ العالم ضجّ بالوسطية والاعتدال فاتّجه بمنتهى الاندفاع نحو التطرّف إلى أقصى اليمين وأقصى اليسار، بل لأنّ الوسط لم يعدْ وسطيًاً أو معتدلاً بالمفهوم الصحيح للوسطيّة والاعتدال، وإنّما صار انتهازيًاً وصفيقاً على نحوٍ يبدو معه مُزايداً على أقصى اليمين المتعصّب في لحظاتٍ، ومتجاوزاً أقصى اليسار المتطرّف في لحظاتٍ أخرى، وهو ما يتجسّد بوضوحٍ في حالة الرئيس الفرنسي الحالي، إيمانويل ماكرون، الذي بدا مُصاباً بلوثةِ الإسلاموفوبيا بما جعله يتفوّق على مجانين اليمين الديني المتعصّب أحيانًا، وهو يرفع شعارات علمانية الدولة وحداثتها وقيمها الجمهورية العريقة، في مقابل تناغمه الكامل ودفاعه المستميت عن الفكرة الصهيونية الدينية إلى الحدِّ الذي أوصله إلى سنّ تشريعٍ يعتبر معاداة الصهيونية ومعاداة السامية سواء.
في هذه النقطةِ تحديداً، صار الرئيس الفرنسي الشاب الذي انتُخب لتجديدِ شباب الجمهورية الفرنسية تلميذاً مخلصاً لقيم (وأفكار) الرئيس الأميركي الساقط بعد فترة ولايةٍ واحدةٍ، دونالد ترامب، إذ سلك ماكرون القادم من يسار الوسط بوصفه يمينيًاً صهيونيًاً متعصّباً، ليبدأ منذ العام 2019 سنة الذروة للمدرسة الترامبية وتمدّدها إلى خارج أميركا، تنفيذ إجراءات لحمايةِ الصهيونية في فرنسا، حيث تعهّد الرئيس الفرنسي باتخاذ "إجراءات" قانونية لمكافحة معاداة الساميّة بقوله: "سنتّخذ إجراءات، وسنصدر قوانين وسنعاقب"، ثمّ شدّد، في خطابٍ ألقاه في حفل العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسّسات اليهودية في فرنسا، أنّ بلاده ستعتمد، في تشريعاتها، تعريفًا لمعاداة السامية، كما حدّده التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة، بحيث يتضمّن معاداة الصهيونية، وأضاف إنّ "معاداة الصهيونية هي أحد الأشكال الحديثة لمعاداة السامية".
خسر ماكرون بكلّ جدارة واستحقاق الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية، في حين جاءت كتلة أقصى اليمين المتعصّب أولاً، وكتلة أقصى اليسار في المرتبة الثانية، بنسبٍ مرتفعةٍ لا تُقارن بالنسبة الهزيلة للكتلة الماكرونية، يسار الوسط الانتهازي الباهت، وهو الذي قرّر التعجيل بانتخاباتٍ مبكّرةٍ بعد ما رأى اكتساحاً يمينيًاً في انتخاباتِ البرلمان الأوروبي.
الأسبابُ ذاتها التي أطاحت ماكرون هي التي سوف تقضي على مسيرةِ بايدن السياسية، ليكرّر إخفاق ترامب في الاحتفاظِ بالمنصب للولاية الرئاسية الثانية، ليس لأنّ الناس كرهت يسار الوسط الديمقراطي، وإنّما لأن هذا النوع من اليسار السوقي الانتهازي بدا في معاداةِ الديمقراطية والانحياز إلى الدكتاتوريات الشرق أوسطية أشرس من اليمين الجمهوري المتطرّف، لتكون المحصلة أنّ الشاب الذي خطف الأنظار حين جرى انتخابُه رئيسًا للجمهورية الفرنسية ولايتين متعاقبتين، لتجديدِ شباب فرنسا وإنعاش الفرانكفونية، أصبح مسماراً في نعشِ الفرانكفونية، وسبباً في هزيمتها وإهانتها وطردها من دولٍ إفريقية عديدة، كما أنّ العجوز الذي انتخبه الأميركيون لترميم النموذج الذي حطّمه ترامب تحوّل إلى عبءٍ على نموذجِ "الحلم الأميركي" الذي فرضت بها الإمبراطورية الأميركية هيمنتها على العالم.