"مواعيد قرطبة" بعد ربيعها
ليس جهدا شاقّا أن تشاهد مجدّدا "صقر قريش"، بساعاته التلفزيونية الثلاثين، ثم "ربيع قرطبة" بحلقاته التسع والعشرين، قبل أن تقرأ رواية "مواعيد قرطبة" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2021)، بصفحاتها الـ 760. فعل هذا بالضبط صاحبُ هذه الكلمات، فأحرز فائضا من الغبطة والمتعة والإفادة، من فرط ما صنعه وليد سيف كاتبا، وحاتم علي مخرجا، في المسلسليْن الباهريْن، من أناقةٍ باذخةٍ وإدهاشٍ فاتن. وبائتلاف مسلسل "ملوك الطوائف" إليهما، تنعقد ما تسمّى ثلاثية وليد سيف وحاتم علي الأندلسية (هناك عمل رابع يتعلق بسقوط غرناطة لم يتم إنجازه مسلسلا). شوهد العملان في موسمي رمضانيْ 2002 و2003. ولمّا كان المعهود أن رواياتٍ تُختار لتحويلها إلى الدراما، فإن وليد سيف يُبادر إلى المعكوس، فروايته الثانية بعد "ملتقى البحرين" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2019)، هي مسلسل "ربيع قرطبة" بتفاصيل تفاصيله، بتتابعه، بجريان أحداثه نفسها، بمشاهده المتوالية، وأحيانا كثيرة بتطابقٍ تام، غير أنها روايةٌ، في الأول والأخير، وإنْ بدا فيها مزاج السيناريست ظاهرا، وإنْ هيمنت المقاطع الحوارية كثيرا. وقد قرأنا أن "مواعيد قرطبة" تأتي في إطار مشروعٍ كبير، يعكف عليه وليد سيف لإعادة كتابة أعمالٍ له دراميةٍ نصوصا روائية.
أيّهما أكثر إمتاعا ومؤانسةً، بهجةً وتسريةً، أن تشاهد المسلسل أولا، أم بعد أن تقرأ الرواية؟ هناك، ستتوفر على الصورة، ترى الناس شاخصين قدّامك، تُسعفك الموسيقى التصويرية بإيحاءاتٍ وانفعالاتٍ مضافة. وإذا كان المخرج حاتم علي، فإن مساحات الجمال ستكون شاسعةً، وهو الذي أمكن له، بثقة وليد سيف بطاقته وحرصه على الإتقان والإجادة، أن يُبدع الصورة الحيّة، والحركية الحاذقة. ثم لمّا تقرأ الرواية، وقد سلك فيها كاتبها منحاه التلفزيوني، الخطّي الكلاسيكي، الثري من قبلُ ومن بعد، بتنوّعٍ باهظ المغازي، في الشخصيات والأمكنة والفضاءات، ستجدك تقرأ، والصور مشخّصةٌ أمام عينيك على صفحات الرواية بين يديك. لن يكون في وُسعك أن تتخيّل، أن تتوقع الصورة المحتملة لهذه اللحظة، أو هذا المقطع، في النص، فقد صنع حاتم علي هذا، وشاهدتَ صنيعَه، وفرحتَ به.
أظنّها ثلاثة مواضع فقط اختلفت سردا في الرواية عمّا هي صورةً وتمثيلا وحياةً على الشاشة، وحُذفت وقائع قليلة جدا شوهدت في المسلسل. ولكن هذا تفصيلي، ثانوي، أمام الجوهري والمركزي في "مواعيد قرطبة"، وموجزه أن وليد سيف، في منجزه السردي هنا، الشائق، والجذّاب، لمّا اختار سيرة المنصور محمد بن أبي عامر (327 – 392 هجرية، 938 – 1200 ميلاديه) في الأندلس قوامَ روايته، أراد أن يكتب عن السلطة والتسلّط، عن العدل والظلم، عن الوداعة والبطش، عن الدولة وبنيانها، عن العصبية والقبلية، عن الشورى والدكتاتورية، عن شهوة الانتقام والغلبة والتغلّب. وأيضا عن ذات الإنسان لمّا يتملّكها الطموح، والنباهة، والدهاء على اختلاف ألوانه، والمعرفة والقدرة والاقتدار، والفطنة والفروسية والشجاعة والإقدام، وأيضا عن الحب، عن المرأة، عن النساء بذواتهن المفردات، بكل ما فيهن.
جاءت الرواية، في تجوالها البالغ الغنى على منعطفات النفس البشرية، وعلى دواليب السلطة في قرطبة، عاصمة الدولة الأموية في الأندلس، في لحظةٍ خاصة، لمّا أمكنَ للشاب القادم من ريف الجزيرة الخضراء، محمد بن أبي عامر، بفطنته، ومكره، وغزارة علمه، وفراستِه، وملكاتِه البالغة الفرادة، أن يصل إلى موقع القاضي، ثم الوزير، ثم الحاجب، ثم الحاكم الآمر، صاحب القرار والسلطة والنفوذ، يحكُم، بالعدل والغِلظة، بالموادعة والبطش، بالحذر والتجسّس على الناس، بالشجاعة والإقدام، بالإنصاف والانتقام، بشهوة السلطة والحرص على العامّة، بحماية الدولة والحفاظ على قوتها، بالانتصار على أعدائها، بالحرب والغزو والمنعة. وإلى ذلك كله، ثمّة في الرواية الإنسانُ نفسه، صداقاتُه، أوباتُه إلى جوانياته، توتّره وأحزانُه وأشواقُه. ثمّة الحب الفريد، أو المستحيل في وصفٍ ذائع، العفيف، بين محمد بن أبي عامر وزوجة الخليفة الحكم، ثم والدة الخليفة الفتى هشام، صُبح، الجارية المغنية، تلك العلاقة التي ألهمت كتّاب قصص السلاطين بخراريف باهتة، غير أنها في صنيع وليد سيف قصةٌ متوهّجة، تضجّ بغواية الأسئلة، والحيرة، ناطقةٌٌ بغزير الإحالات والمعاني، سيما وأن هذا الحب توازى، في واحد من أطواره، مع روح متوثّبة في المحبوبة من أجل انتزاع السلطان من حبيبها إلى ولدها.
أين المتخيّل والحقيقي في مئات المقاطع (والمشاهد في النص والمسلسل)؟ هل من شخصياتٍ صنعها وليد سيف ورماها في متن الواقعة التاريخية، فكانت لها حكايتها في الفضاء العام للنص؟ هل جرى هذا؟، ما الذي أعمله قلم كاتبنا في الذي جاءت به مصنفات القُدامى، هو المهجوس بمُتعة الحكاية، وبشحنها بالمنطوق السياسي والفكري الذي يريد، فكتبَ ما كتب بحرفة صانع القصة، لتكون شائقةً لقارئٍ ومُشاهد؟ لتكن هذه أسئلة أكاديميين، دارسين للتاريخ بوصفه تأريخا. أما الشاعر العتيق، وليد سيف، فلم يشتغل يوما في كتابة تاريخ، ولا بتدوين وقائع وسير، وإنما بالذي تعطيك إياه، في راهنك، تجاربُ إنسانيةٌ في التاريخ، وبالذهاب إلى أقاصي الفرداني والجمعي، معا، في هذا التاريخ. ولذلك استعان بالخيال، وبقراءته عن الأمم والشعوب، في الأندلس وغيره، فكتب فنّا وأدبا، وأبدع جمالا، للصورة على الشاشة بتوقيع حاتم علي، ولقراءة روايةٍ بأكثر من سبعمائة صفحة، تفيض بلغةٍ عالية، وبمتعةٍ ودهشةٍ غزيرتين.