من يملك القرار في سورية؟
تمضي مساعي التقارب بين تركيا ونظام بشار الأسد في سورية، بوساطة روسية، على قدم وساق منذ كشف عنها وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، في أغسطس/ آب 2022. وهي كانت قد بدأت قبل ذلك بعام تقريباً، ولكن بشكل غير معلن عنه. تتقدّم تلك المساعي خطوة ونصف خطوة وترجع خطوة إلى الوراء، إلا أنها، في المحصلة، تسير قدماً، بغض النظر عن الاحتجاجات الشعبية في "المناطق المحرّرة" في شمال سورية، وبغض النظر عن التطمينات التركية لقيادات المعارضة وأطرها بأنها ليست في وارد التخلّي عنهم وعن حقوق السوريين عموماً. وبعيداً عن حقيقة الحسابات والدوافع التركية، فإن أمراً واحداً ثابتاً، مفاده بأن لا نظام بشار، ولا المعارضة السورية، صاحبا قرار فعليان في ما يجري، مع ضرورة التنبيه إلى أن الثانية أضعف بكثير. إذ يملك الأول ميزة المناورة المحدودة على وتر تناقضات الحسابات الروسية - الإيرانية، فضلاً عن أن وضعه الميداني تعزّز بشكل كبير منذ أواخر عام 2015، عندما دخلت روسيا بقوتها العسكرية داعمة لقواته والمليشيات الإيرانية على الأرض. أما المعارضة السورية، فمعظم أوراقها، إن لم تكن كلها، في يد أنقرة، بعدما تخلّى عنها قبل ذلك القريب والبعيد، دافعين بها أكثر فأكثر إلى الحضن التركي، الذي يمثل المنفذ الجغرافي الوحيد للمناطق "المحرّرة"، بل قل متنفسها وعمقها.
ما يجري في سورية هو حصاد سفاهات النظام وإجرامه بالدرجة الأولى. هو من شَرَّعَ أبواب البلاد لتسلّل الأجانب والغرباء من كل حدب وصوب. واليوم، أحببنا أم كرهنا، ليس قرار سورية في يد بشار ولا معارضتها ولا شعبها. بل إنه ليس في يد قوة واحدة، كائناً من كانت، سواء روسيا أم إيران أم تركيا أم الولايات المتحدة. لا بد أن يتفق كل الفرقاء أولاً، حتى قبل أن يتفق السوريون. ولكن أَنَّىٰ هذا، والنظام نفسه ليس واحداً منسجماً، ولا المعارضة كذلك، حتى داخل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية والتحالف الواحد؟ دع عنك، بعد ذلك، المليشيات والمافيات والجماعات التي تتعدّد مشاربها ومصالحها وحساباتها. إنها فوضى قائمة، صمّمها النظام بغباء منقطع النظير، ظنّاً منه أن ذلك سيجهض الثورة من داخلها، فكان أن أفلتت الخيوط من يديه، في الوقت التي فشلت فيه المعارضة، لأسبابٍ ذاتيةٍ وموضوعية، في الإمساك بها، بل وضاعفت من خبط عشوائها.
يملأنا الأسى على سورية وشعبها المنكوب المظلوم، لكن الأقدار لا تحابي سوء التخطيط والحسابات الخاطئة
أمام هذا الواقع المزري لا تملك إلا أن يصيبك الاشمئزاز من تصريح بشار الأسد أن التقارب مع تركيا بوساطة روسيا يجب أن يهدف إلى "إنهاء احتلال" أنقرة أجزاء من سورية. حسناً، وماذا عن انهاء الاحتلال الإيراني والمليشيات المحسوبة عليه؟ وماذا عن إنهاء الاحتلال الروسي؟ أم هناك وصاية مقبولة وأخرى غير مقبولة، واحتلال جميل وآخر بشع؟ أما بالنسبة للاحتلال الأميركي، فبشّار يتحدّث عن إنهائه، ولكنه يتغاضى عن حقيقة أنه ما كان ليكون، هو ولا غيره، لولا إجرامه وبلادته.
إذن، ليست المعارضة السورية وحدها مغلوبة على أمرها في مسألة التقارب المضطرد بين أنقرة ودمشق، بل النظام هو الآخر مغلوبٌ على أمره، وتجرّه موسكو المدفوعة بورطتها في أوكرانيا جرّاً، وهو لا يملك إلا إبداء بعض النزق والشغب، ومحاولات التمترس وراء الحليف الإيراني، الغارق هو الآخر في أزماته الداخلية. الهوان بين الناس هو مصير كل من هان على نفسه. وانهيار الجسد من داخله حتميةٌ نافدة على كل من أعطب، إرادياً، مناعته ودفاعاته الأصيلة. وفقدان السيطرة على مقاليد الأمور ومستقبل الذات، هي نهاية كل من ألجأ أهله إلى طلب عون خارجي، وهدم أسوار حصونه أمام أعدائه، وسمح لمن حوله بالتدخل في خاصة شأنه.
يملأنا الأسى على سورية وشعبها المنكوب المظلوم، لكن الأقدار لا تحابي سوء التخطيط والحسابات الخاطئة. يمكن لنا أن ننتقد المقاربة التركية الجديدة في سورية ما شئنا، لكن هذا لا يغيّر من الواقع شيئاً. هي السياسة في واحدةٍ من أبرد تجلياتها وأقساها، أين تتقدّم المصالح الاستراتيجية العليا لدولة، أو حتى بعض الحسابات السياسية لحزب حاكم، على المعايير الأخلاقية والأيديولوجية. الكارثة، هي في من لا يعرف أصلاً معنى المصالح الاستراتيجية لدولةٍ تحت سيطرته.