من يعتذر عن مقتلة ميونيخ؟
الفلسطينيون موعودون في السادس من الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول) بزوبعة استهدافٍ دعائيةٍ مستجدّةٍ ضدّهم، سترميهم بالإرهاب وازدراء النفس الإنسانية، وذلك في تأبينٍ كبيرٍ ستشهده ميونيخ، يحيي الذكرى الخمسين لمقتل تسعة رياضيين إسرائيليين وشرطي وطيار ألمانييْن قضوا في اشتباكِ قنّاصةٍ ألمان مع ثمانية فدائيين فلسطينيين أمكنهم احتجاز التسعة رهائنَ لديهم من القرية الأولمبية في أثناء دورة الأولمبياد في ذلك العام (1972) في المدينة الألمانية (قتل إسرائيليان في عملية الخطف ليلا)، وكان الاشتباك كمينا غدرَ بأولئك الفدائيين أنهى اتفاقا بينهم وبين السلطات الألمانية بأن يغادروا بطائرةٍ معدّةٍ لهم، مع الرهائن، إلى القاهرة. والمرجّح أن يعرف التأبين تصعيدا في الكلام المؤذي ضد الفلسطينيين، من دون أن يُؤتى على شيءٍ مما اقترفته آلة الإجرام الإسرائيلية فيهم عقودا. وربما يُؤتى، في الأثناء، على رفض الرئيس محمود عبّاس، أخيرا، الاعتذار عن تلك الفعلة في ميونيخ التي أُزهقت في غضونها أرواح الإسرائيليين (لن يذكر أحدٌ الفدائيين الخمسة الذين قُتلوا في الخديعة الألمانية).
هذا واحدٌ من وجهي الخبر. الثاني أن ممثلي عائلات أولئك الرياضيين الإسرائيليين القتلى قد يرفضون تلبية دعوةٍ لحضور التأبين، لأن الحكومة الألمانية تعرض مبلغا "مهينا" (بحسب وصف متحدّثة باسمهم) تعويضا لهم، وهو 5,5 ملايين يورو، مضافة إلى 4,5 ملايين يورو دفعتها ألمانيا لهم بين 1972 و2002. وأفادت المتحدّثة (أرملة مدرّب إسرائيلي) بأن العائلات تشعر بالغضب وخيبة الأمل. أما المبلغ "المطلوب"، بحسب ما تردّد، فهو 90 مليون يورو، "إذ نريد أموالا تُحدِث فرقا في حياة أطفالنا"، على ما قالت. وفي الأخبار أيضا أن الرئيس الألماني، فرانك فالتر – شتاينمار، قد يزور إسرائيل، خلال أيام، بغرض "مصالحة" هذه العائلات (!)، وأن نظيره الإسرائيلي، يتسحاق هرتزوغ، يعتزم زيارة ألمانيا، الشهر المقبل، وقد لا يُشارك في مراسم حفل التأبين، إذا جرت المقاطعة المحتملة.
من بالغ الضرورة أن نعرف، نحن العرب، تفاصيل هذا "الحرد"، والذي تمارسه عائلات إسرائيليين قضوا برصاصٍ ألماني، بحسب شهود وعارفين كثيرين، وما أفادت به وثائق ومحاضر اجتماعات وأفلام وثائقية وتقارير موثقة. وضروري أن يعرف العالم كله أن ألمانيا هي المسؤولة الأولى عن قتل الإسرائيليين التسعة. ويحسُن أن يُبذل جهدٌ فلسطيني، علميّ وموضوعي، عشية التأبين المرتقب، يؤكّد أولا على أن الدولة الألمانية هي المطالبة بالاعتذار عن مذبحة مطار فورستينفيلدبروك، عندما أخلّت، بدراية وتنسيق مع السلطات الإسرائيلية، باتفاقٍ وصلت إليه في تفاوضٍ مع الخاطفين الفلسطينيين، وقد كشفت وثائق إسرائيلية نُزعت عنها السرّية أن رئيسة الوزراء، في حينه، غولدا مائير، لم تُمانع محاولة تحرير الرهائن في عملية اشتباك عسكري، وإن قضى هؤلاء قتلا في أثنائه، فالأهم عدم إبداء أي تنازل لـ"الإرهابيين الفلسطينيين"، وإن كان الثمن حياة الرياضيين الإسرائيليين. ومن الأهمية القصوى، في المناسبة، أن يؤكّد جهدٌ فلسطينيٌّ ملحٌّ مثل هذا أن عملية الخطف الفدائية لم يتضمّن التخطيط لها، أبدا، قتل أي رهينة إسرائيلية، وألحّت على أن احتجازهم بقصد تحرير 236 أسيرا فلسطينيا من سجون الاحتلال، وللفت أنظار العالم إلى ما تمارسه إسرائيل من فظاعاتٍ ضد الفلسطينيين، وفي اعتداءات على جنوب لبنان، وفي اغتيالاتٍ نشطت فيها (قتل غسّان كنفاني قبل أقل من شهرين من "ميونيخ").
فعل الاعتذار شجاعٌ، ولكن ليس له أن يحدُث فلسطينيا بشأن عملية ميونيخ (وغيرها) إلا ضمن تسويةٍ تاريخيةٍ كبرى، مشروطة بحزمةٍ من الموجبات، منها إقرار دولٍ كبرى (بريطانيا وأميركا وغيرهما) بمسؤوليتها واعتذارها عن المأساة الفلسطينية، بفعل ترخيص الطرد والتهجير والقتل والعدوان الذي تواصله إسرائيل منذ تشكّلت عصاباتها الإرهابية الأولى قبل 1948 .. وفي شأن "ميونيخ"، لا حرج في القول إن الفلسطينيّ أقدم عليها، في مرحلةٍ لها إكراهاتها الضاغطة عالميا، وإنه في العام 2022 على مسافةٍ أخلاقيةٍ منها ومن مثلها من عمليات. وعندما يقول متحدّث باسم وزارة الداخلية الألمانية إن بلاده تعتزم إجراء "تقييم تاريخي"، بواسطة مؤرّخين ألمان وإسرائيليين، لتحديد ما حدث "من منظور عام 2022"، فإن فعلا فلسطينيا محضا مطلوبا من المنظور ذاته. أما الاعتذار عن تلك المقتلة في ميونيخ فألمانيٌّ أولاً.