من يرأف بأهل غزّة؟
قد يستفزّ عنوان المقال بعض القرّاء، فيعتبرونه دعوةً إلى الشفقة على أهل غزّة، ويردّون غاضبين "إن أهل غزّة يمدّوننا بالشجاعة والأمل وليسوا بحاجة إلى الندب عليهم"، وهذا، إلى حد ما، صحيح. ولكن، لنستفق ونتذكّر أن دماءهم ودموعهم ليست مجرّد جرعات أمل نتلقّاها ونستمر في حياتنا وكأن شيئا لم يكن، تاركين الأمهات الثكالى وأطفالا يبحثون عن ذويهم وأهاليهم الذين اختفوا في لحظاتٍ أو كلمح البصر، من دون أملٍ بعودتهم، وكأن وجودَهم لم يكن أكثر من خيال.
هذه دعوة إلى أن نصحو ونواجه الواقع السياسي حولنا، ليس بهدف الاستسلام، بل للتحذير وإدانة التهرّب من المسؤولية، فوجه الشهيد أو الطفل الذي دُفنَ تحت الركام ليس مجرّد صورة نرثيها أو نمجّدها على صفحات "فيسبوك"، ففي عيون الشهداء إدانة لنا جميعا، وكأن مسؤولية التضحية والقتال اقتصرت عليهم ونبقى، نحن المتفرّجين، نحسّ بالنشوة بفعل صاروخ وصل إلى تل أبيب، ونحزن على موتٍ خطف أرواحا وأحلاما، وهدم بيوتا بُنيت بكدّ وعرق، طوبةً طوبة.
يجب رؤية ما حدث في غزّة بوضوح؛ نحن شهدنا جريمةً هي جزء من مجازر مستمرّة، وستتبعها مجازر، لأن عدواً بنى كيانه على سرقة وطن وأرض، وتشريد الشعب الأصيل وقتله، لا يستطيع الاستمرار من دون حروب، لأنه يرى مجرّد استمرار الآخر بالحياة وعدم الخضوع خطرا على بقائه، فترسانة الأسلحة لا تجلب الأمن والراحة لسارقٍ يعرف أن للأرض لغتها وعبقا لا يحسّ به، حتى وإن اشتمّ رائحة الزعتر والزيتون، فكلها غريبة عليه، ومن يفهمها هو خطر عليه، ولا بد من إزالته.
إسرائيل، وبالرغم من "انتصاراتها" وتخاذل أنظمة عربية اخترقتها، تعيش في خوفٍ من صاحب الأرض الذي يتحدّى تجبرّها، وهذا يفسّر جزئيا ازدياد وحشيتها، فهي تعتقد أن حال السكون في العالم العربي تعطيها فرصةً للانقضاض لسلب الفلسطيني إرادته، فيبرز لها إبراهيم النابلسي في نابلس وخالد منصور في غزّة، عمالقة تقدح نار العزّة في عمق عيونهم الجميلة، توقظ فينا حسّا مقاوما، كانت إسرائيل قد اعتقدت أن قمع الأنظمة وظلمها قد أطفآه، فتتكفّل نابلس وجنين وغزّة بإشعاله.
الأنظمة العربية تنفذ أجندة أميركية لمحاصرة الفلسطينيين وعزلهم
سياسيا، لم يكن العدوان على غزّة معزولا عن الرؤية الأميركية المُعلنة بدمج إسرائيل في المنطقة، وتشكيل حلف أمني عسكري، يجمع الدول العربية وإسرائيل، تحت قيادة أميركية بهدف تغيير الخريطة السياسية، وإنهاء أي شيءٍ اسمه عالم عربي، وهذا يتطلب شطب حالة العداء لإسرائيل في الوعي العربي، فإيران هي عدو المنطقة، تتشارك إسرائيل والعرب، وفقا للمشروع الأميركي، بمواجهتها، فالحليف والقائد هو إسرائيل، وإيران خطرٌ يهدّد الجميع. ولكن قادة الدولة الصهيونية على عجلةٍ من أمرهم، فالهبّات الفلسطينية المتتابعة وعمليات المقاومة، فرديةً كانت أم منظمة من الفصائل الفلسطينية، تترافق مع تغيير في الرأي العام العالمي، لم تشهده إسرائيل من قبل. فالفلسطيني اقتحم المخيّلة العالمية كـ"ضحية" ورمز للشجاعة في آن معاً. وعليه؛ بالنسبة لإسرائيل، التركيز على الخطر الإيراني ضروري، ليس لأنها تدعم فصائل فلسطينية وتسلّحها فحسب، وإنما لأن من الصعب مكافحة تأثير صور الفلسطينيين، وأصواتهم، بينما من الأسهل كسب التعاطف في معركة بين "إسرائيل" ممثلة الغرب وإيران "المُشيطَنة أصلا" في المخيلة الغربية، فتركيز إسرائيل على "العدو الإيراني"، يخدمها إعلاميا، في معركةٍ يكسب فيها الفلسطينيون يوما بعد يوم، فالعدوان الإسرائيلي لم يكن ردّة فعل بل ضربة مدروسة، أرادت منها تل أبيب إضعاف قدرات حركة الجهاد الإسلامي، وبعث رسالة إلى طهران. وتعتقد إسرائيل أنها أضعفت حركة حماس في حرب مايو/ أيار 2021، وهي الآن تهدف إلى إضعاف قدرات "الجهاد الإسلامي" التي تحتاج فترة لتعويض مخزون أسلحتها، وبالتالي، إضعاف المقاومة ككل. وأرادت أيضا إظهار المعركة بأنها ضد النفوذ الإيراني في غزّة، فهي لا تضرب الشعب الفلسطيني، وإنما "أدوات إيران في غزّة"، فتصوير حركة الجهاد الإسلامي تنظيما تابعا لطهران، يخدم أهداف تل أبيب وواشنطن في المنطقة، وإنْ علينا أن نعترف أن توجيه ضربة قاسية للحركة التي يجب أن نؤكّد هنا أنها فصيل فلسطيني مقاوم، هي أيضا رسالة وضربة لإيران، فعلاقة الدعم الإيراني لـ"الجهاد الإسلامي"، على وجه الخصوص، معلنة من الطرفين، بل أعلنت إيران وبوضوح أن لها علاقة بالعمليات الفدائية الفلسطينية، في تصريحاتٍ خدمت طهران، لكنها أضرت بالحركة المقاومة وعموم الفلسطينيين.
سأل عنوان المقال: من يرأف بأهل غزة؟ فالتضامن مع الشعب الفلسطيني وأهل غزّة لا يعنيان عدم تحليل الصورة كما هي وبوضوح، إسرائيل تبقى العدو والمجرم، ولا جدل في ذلك، وإيران دولة أصيلة في المنطقة، ولا مقارنة بينها وبين إسرائيل. ولكن؛ هل فكّرت طهران بتبعات تصريحاتها والطلب من الفصائل الفلسطينية أن تشكر الدعم الإيراني للشعب الفلسطيني؟ لم تكن إسرائيل بحاجة إلى ذريعة، وليس هذا مقصدي، لكن، على طهران أيضا أن تتصرّف بمسؤولية، فالفلسطيني يجب أن لا يكون جزءا من أوراق التفاوض الأميركي الإيراني بشأن العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني.
دعم إيران تنظيمات فلسطينية معروف، غير المفهوم كيف تفيد التصريحات الإيرانية عن دورها في دعم الفصائل المقاومة في معركةٍ، تسعى فيها إسرائيل إلى تغطية جرائمها، خصوصا أن إيران قد لا تستطيع، في الوضع الحالي، إمداد حركتي الجهاد الإسلامي وحماس بأسلحة كافية للتعويض عن خسائرهما، فالمقاومة يجب أن لا تكون جزءا من أهداف إيرانية، والقول إن الأنظمة العربية تنفذ أجندة أميركية لمحاصرة الفلسطينيين وعزلهم، على صحة ذلك، لا يعني الامتناع عن نقد طهران وقيادات فصائل المقاومة.
على فصائل المقاومة إعادة تقييم تجربتها وخسائر الشعب الفلسطيني، فغياب الرؤية الاستراتيجية تهدر التضحيات
على فصائل المقاومة إعادة تقييم تجربتها وخسائر الشعب الفلسطيني، فغياب الرؤية الاستراتيجية تهدر التضحيات، وخصوصا أن حركة حماس مشغولةٌ بصراع على السلطة، ومقيّدة بمصالحها السلطوية وباتفاقيات هدنة بشروط أمنية إسرائيلية، جعلتها في موقع المتفرّج، وتركت المقاومة وحيدة. وهذا لا يعفي الأنظمة العربية من جريمة التطبيع، فالفلسطيني يجد نفسه وحيداً، ولذلك توجه التنظيمات الفلسطينية إلى إيران مفهوم، في وقت تتآمر أنظمة عربية عليها، بل وتتفاخر أنظمة بتأييدها إسرائيل. ولا يعفي كذلك السلطة الفلسطينية وتمسّكها بالتنسيق الأمني المشين، وتدمير حركة فتح، فالحفاظ على الحركة بتقييدها، هو تدمير للتنظيم الذي أطلق شرارة الثورة الفلسطينية بعد النكبة، ناهيك عن الانقسام الفلسطيني على "سلطةٍ لا سيادة لها على أرض أو سماء أو حركة"، تجاوز كونه عارا، ليرقى إلى مستوى جريمةٍ بحقّ تضحيات الشعب الفلسطيني. وتكتمل الصورة بنا نحن المراقبين والمهللين، من دون انخراط في المعركة؛ نصفق ونبكي ثم تمضي غالبيتنا في طريقها من دون فعل شيء.
ليس مطلوبا حمل السلاح والوصول إلى الحدود، لكن معركة الشعوب العربية هي مقاومة التطبيع، فإن لم نخضها نصبح ليس أكثر من مشجّعين لعرس دم، نترك فيه الأم الثكلى والأطفال المفجوعين، ونمضي في حياتنا ننتظر مشهدا جديدا، لشعبٍ يدفع الثمن عنا.