من يدفع نحو المواجهة بين المغرب والجزائر؟
يعيش الوسط الإعلامي والسياسي، الشعبي والرسمي، في المغرب، غلياناً حقيقياً، بعد فيديو بثته قناة الشروق الجزائرية عن الملك محمد السادس. واعتبر كل الطيف المغربي ذلك مسّاً جارحاً برمز من رموز السيادة الوطنية، ممثلاً في شخص الملك، يرتبط في المشترك الجماعي بالهوية السياسية والدينية والتاريخية للمغاربة، باعتبار الدين والتاريخ والدستور دوائر إنتاج الشرعية السياسية في البلاد. وقد قدمت القناة، في برنامجٍ للدمى، شخصية ملك المغرب، بصورة مسيئة إلى المغاربة وإلى ملك المغاربة. واعتبر كثيرون الأمر تعبيراً عن أزمة قيم لديها، ولدى القائمين عليها، ودوساً لأخلاقيات الصحافة في ما يتعلق بالاحترام الواجب لرئيس دولة، جارة وشقيقة، ما زالت العلاقات بينها وبين الجزائر قائمة.
وتضاعف الشعور بالعداء، لدى المغاربة، وهم يعلمون أن الدولة المغربية رفضت أي تدخل في الشأن الجزائري، عندما حرّمت على نفسها التعبير عن أي موقف، مهما كان متوازناً، مما يجري في الجوار، سواء إبّان الصراع على ولاية جديدة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، أو عند اشتداد الحراك الشعبي سنة كاملة في مواجهة غير مسبوقة في الجزائر الخارجة من عشرية سوداء، وعشرينية للتضميد الصعب. وقد بلغ الحرص المغربي درجة عالية من الحصافة، عندما أُقيل رئيس نقابة أرباب العمل، وهي نقابة قوية ووحيدة في المغرب، وكان سابقاً وزيراً للخارجية، صلاح الدين مزوار، على إثر تصريح له يمسّ بالوضع الداخلي الجزائري، على الرغم من طابعه التحليلي.
وقفت الجزائر إلى جانب جبهة بوليساريو الانفصالية بعد تدخل الجيش المغربي في الكركرات، ثم ازداد الاحتقان مع اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء
وارتفعت حدة التوتر من الطرف الجزائري، عندما تدخل الجيش المغربي، في منطقة الكركرات، على المنطقة الحدودية بين المغرب وموريتانيا، لتأمين المعبر للتجارة الدولية وإعادة الأمر إلى نصابه، ووقفت الجزائر، بكل ثقلها، إلى جانب جبهة البوليساريو الانفصالية، ثم ازداد الاحتقان مع اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء. وخرجت أصوات الجزائر، مأذونة وغير مأذونة، في قناة الشروق نفسها، وفي منابر أخرى، تعلن "تهديد الأمن القومي الجزائري"، و"الجيش الجزائري كأكبر قوة في منطقة شمال أفريقيا ودول الساحل"، وعن تلميحاتٍ أخرى تخص قدرته على دخول التراب المغربي والوصول إلى الرباط، غزواً في عشر ساعات فقط... إلخ، ما عُدَّ "دونكيشوتيات" غير مبرّرة، ولا معقولة، في زمن البحث عن استقرار في منطقة البحر المتوسط وشمال أفريقيا. وارتفع الاحتقان درجة إضافية مع انعقاد مؤتمر الاتحاد الأفريقي يومي 6 و7 فبراير/ شباط الحالي، وكان متوقعاً أن يحصل فيه حصد مكاسب لفائدة جبهة الانفصاليين، وعزل المغرب في المنظمة التي عاد إليها قبل أربع سنوات. وكان أن القضية الوطنية للمغاربة، أي أقاليم الجنوب، لم تذكر بتاتاً في كل فقرات هذا المؤتمر، كذلك فإن القيادة عادت إلى بلاد صديقة للمغرب، الكونغو الديمقراطية، وكذلك عودة أحد أصدقاء المغرب إلى رئاسة مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى محمد فقي، الذي تلقى رسالة تهنئة من الملك محمد السادس، كانت لها دلالاتها وشروحاتها في الأوساط المغربية، بالإضافة إلى انتهاء رئاسة الجزائري إسماعيل شرقي لمجلس الأمن والسلم في الاتحاد، وهو الذي اعتبره المغرب دوماً أنه كان يَحول دون القيام بدور إيجابي، أو على الأقل محايد، في إدارة هذه اللجنة المؤسساتية الهامة في منظومة القرار داخل الاتحاد الأفريقي.
وقد خرج وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، يعدّد مثالب الدبلوماسية الجزائرية ضد المغرب، ومنها تفرغ الجزائر التام، صحافة ودبلوماسية وعسكراً، ضد الجار الغربي، بجعلها القضية الصحراوية قضيتها الوطنية الأولى، في تناقض واضح مع القول بالحياد في صراع لا يد لها فيه! وقد تابع الجميع الكمّ الذي تخصّصه الوكالة الرسمية للجزائر من أخبار، كلها سلبية وعدائية للمغرب، إذ لا يخلو أي يوم من قصاصات تعطي الكلمة لمن تعتبرهم معارضين للنظام المغربي، أو تروج كل مناشير الانفصاليين، بما فيها الأخبار عن حروب ضروس في الصحراء لا يعلم بها أحد ولا تراه أي وكالة، لا بالعين المجرّدة ولا بعيون الفضاء الدولية!
هناك من يعمل على تقويض أية حظوظ، مهما صغرت، في حصول تفاهم ما، أو على الأقل الحفاظ على "السلام المسلح" بين المغرب والجزائر
وقد ترك ذلك كله الردود المغربية في حدود بعض الأعمدة، أو المقالات، التي تردّ على الهجوم بالتزام التفريق بين ثوابت الجزائر ومتغيرات نظامها، غير أن الهجوم الجزائري، في برنامج "الشروق" كاد أن يسبب ألماً كبيراً للمغاربة، عندما سخر من طقوس البيعة في البلاد، ثم من النزاع حول الصحراء المغربية، وأيضاً من اليهود المغاربة، وسفّه السلوكات المغربية وإمارة المؤمنين، بدون أدنى توقير واجب. وللتذكير، كان القضاء المغربي قد أدان صحافياً مغربياً تجاوز حدود النقد في حق الرئيس المطاح، عبد العزيز بوتفليقة، وأُدين بحكم نافذ، ولم يتضامن معه أحد في سياق الاحترام الواجب لرئيس دولة، جعلت الجيواسراتيجيا منها دولة بعيدة عن الحب المتبادل.
أمام الهجوم السافر، ارتفعت الأصوات في المغرب بالتنديد، مع الدعوة الملحة، سواء الصادرة عن المجلس الوطني للصحافة في المغرب، وهي مؤسسة دستورية، أو الجمعيات المهنية لأرباب الصحف، من قبيل الفيدرالية المغربية والجمعية الوطنية، أو من النقابة الوطنية التي تضمّ الصحافيات والصحافيين، بضبط النفس وعدم الرد بالمثل، والتمسك بالروح المغاربية. كذلك دعت البيانات الصادرة عنها العقلاء في الإعلام الجزائري إلى لعب دورهم في إدانة هذا المنحى التخريبي، وعزل السلوكات المهينة التي تسبّ المستقبل، كما تسبّ الماضي والحاضر.
يعرف المخطئون من الجزائريين، أكثر من غيرهم، أن الثلاثية المقدّسة في جوارهم تقوم على الدين الإسلامي والوحدة الوطنية والملكية. وهم بسلوكٍ كهذا كانوا يدركون أنهم يوجّهون السهام إلى مستلزمات السيادة ومقوماتها، ونية الإساءة بالألم واضحة، فهل هناك من يعمل، بالفعل، على تقويض أية حظوظ، مهما صغرت، في حصول تفاهم ما، أو على الأقل الحفاظ على "السلام المسلح" بين البلدين؟ المستقبل جدير بأن يجيب.