من يتحكّم في شرق أوروبا؟ العلاقات الفرنسية الروسية من التقارب إلى الاشتباك

17 يوليو 2024

الرئيسان الروسي بوتين (يمين) والفرنسي ماكرون في مؤتمر صحافي في موسكو (7/2/2022 فرانس برس)

+ الخط -

لا يزال المشهد من صنع الخيال: دبابة لوكلير الفرنسية تواجه دبابة تي 90 الروسية على أحد محاور القتال في أوكرانيا. لكن أليست الحرب هي ما تصنعه المُخيّلة أولاً؟ ومن يعرف ماذا يدور في مخيّلة كلّ من فلاديمير بوتين وإيمانويل ماكرون وقادة أركان الجيشين الروسي والفرنسي؟ ألم تلوّح روسيا بالخيار العسكري ضمنياً، ردّاً على إعلان فرنسا نيّتها إرسال جنود فرنسيين إلى أوكرانيا من أجل مساعدة الأخيرة "حتى النصر"، أي حتى إلحاق "الهزيمة الاستراتيجية" بروسيا؟

تشهدُ العلاقات الفرنسية الروسية إذاً تدهوراً خطيراً؛ من تصعيد إلى تصعيد، وتغدو المواجهة العسكرية المباشرة في أوكرانيا أكثر من محتملة. تمرّ هذه العلاقات بحالةِ توّترٍ قد تبدو ظرفية ومؤقتة. لكن عدم إمكانية فصلها عن سياق السياسة الدولية وتحوّلاتها في القرن الواحد والعشرين يُنذر باستدامتها، لا سيما في ظلّ التحدّيات الجيوسياسية التي تؤثّر على العلاقات الفرنسية الروسية تاريخياً. أمّا فهم الحالة الصراعية الحادة بين القوتين الأوروبيتين والعالميتين فيتطلّب البحث في عوامل فشل محاولاتِ الانفتاح والتقارب التي راهنت عليها فرنسا اعتباراً من تسعينياتِ القرن العشرين، بعد انتهاء الحرب الباردة، وحتى اندلاع حرب أوكرانيا مطلع 2022.

موقف فرنسي مُتصلّب

في المرحلة الأولى من حرب أوكرانيا، كان ماكرون يتمسّك بالحوار وضرورة تجنّب "إهانة روسيا". وكان يتحدّث أيضاً عن حلّ يمكن أن يراعي هواجسها الأمنية. لكن سرعان ما بدأ بتغيير لهجته وسياسته بعد فشل الهجوم الأوكراني المضاد، صيف 2023، وتأخر المساعدات الأميركية في خريف 2023 وشتاء 2024. أمام مؤشّرات التقدّم العسكري الروسي، تصلّب الموقف الفرنسي أكثر فأكثر.

من المستبعد أن يؤدّي ضعف الرئيس الفرنسي داخلياً إلى تغييرٍ جذريٍ في مقاربةِ باريس للمسألة الأوكرانية والصراع مع روسيا

"عدم استبعاد" خيار إرسال قوّات إلى أوكرانيا هو احتمال وضعه ماكرون على طاولةِ البحث، خلال مؤتمر دولي لدعم أوكرانيا، في 26 فبراير/ شباط 2024، في باريس، محدّداً هدفاً واضحاً يتمثّل في ضرورةِ فعل "كل ما ينبغي حتى لا تتمكن روسيا من الانتصار في هذه الحرب". بعدها انتشرت شائعاتٌ عن استعداد فرنسا لإرسال ألفي جندي إلى هناك، كمدربين وخبراء، من دون أن يكونوا في وضعيةٍ قتاليةٍ على المحاور. لاحقاً، دخلت فرنسا في أزمةٍ سياسيةٍ على خلفيّة قرار ماكرون حلّ الجمعية الوطنية وإجراء انتخاباتٍ تشريعية، على دورتين، أظهرت تزايد شعبية وقوّة اليمين المتطرّف الفرنسي الذي يعارض الانخراط المباشر في الحرب، وفوز اليسار وخسارة ماكرون الأغلبية النيابية. مع ذلك، من المستبعد أن يؤدّي ضعف الرئيس الفرنسي داخلياً إلى تغييرٍ جذريٍ في مقاربةِ باريس للمسألة الأوكرانية والصراع مع روسيا.

إرسال قوّات وغموض استراتيجي

صحيح أنّ باريس، في ظلّ غياب إجماعٍ أوروبي على إرسال قوات إلى أوكرانيا، لا تعتزم التصرّف على نحو معاكس لهذا الإجماع. لكن ذلك لا ينفي احتمال "أنْ يزداد مستوى النشاط (الفرنسي) في أوكرانيا"، كما يذكر الباحث إيلي تينينبوم (Élie Tenenbaum) في دراسةٍ مشتركة مع الباحثة إميلي زيما (Amélie Zima)، عن السياسة الفرنسية في شرق أوروبا بمواجهة "التهديد الروسي"، الصادرة عن المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في يونيو/ حزيران 2024. تحلّل الدراسة كيف تبدو فرنسا مُصمّمة على الانخراطِ في لعبة التنافس الجيوبوليتيكي في شرق أوروبا بوجه روسيا، وتتوقع "إرسال" أفراد فرنسيين (سيتعيّن تحديد وضعهم، مدنيين أو عسكريين) إلى الميدان، حتى لو كان هذا الوجود لا يتوافق مع مصطلح القوات الذي يشير عموماً إلى فكرةِ وجود "قوات قتالية". لا وضوح إذاً بشأن المدى الذي سيبلغه الدور الفرنسي المباشر في الميدان الأوكراني. لكن الغموض يبدو مقصوداً، فباريس التي تمتلك السلاح النووي تتعمّد ممارسة ما يُسمّى "الغموض الاستراتيجي". الهدف منه يتمثّل في إبقاء روسيا في موضعِ الشك حول النيات الفرنسية الفعلية، ما يؤدّي إلى إرباك حساباتها وتجميد أو الحدِّ من تحرّكاتها ومناورتها في أوكرانيا، طالما أنّها غير متيقنة مما سيكون عليه ردّ الفعل الفرنسي في هذه الحالة الهجومية أو تلك، بحسب تفسير قدمه السفير الفرنسي الأسبق في موسكو، جان دوغلينياستي (Jean de Gliniasty)، في حديث إذاعي يوم الخامس من مارس/ آذار 2024.

حكاية التذمر..

ليس طي صفحة المرونة الفرنسية حيال روسيا تصرّفاً مرتجلاً. ولم يأت ردِّ فعلٍ على حدثٍ ظرفيٍ، بل على تراكم مجموعة أحداث وتصرّفات تظهر، أقله منذ عام 2008، تصميم روسيا على استعادة "سياسات القوة، مستفيدة من إمكاناتها الاقتصادية الناتجة عن أسعار الطاقة، ومن تعزيز نفقاتها العسكرية"، بحسب "الكتاب الأبيض حول الدفاع والأمن الوطني - 2008"، الصادر عن رئاسة الجمهورية ووزارة الدفاع في فرنسا. وبدأ التذمر ينمو بعدما أدركت باريس أنّ "سياسة التقارب" التي انتهجتها حيال موسكو بعد انتهاء الحرب الباردة، أدّت إلى نتائج عكسية، لأنّ روسيا اتخذت "سلسلة من المبادرات التي تتعارض مع هذا الهدف (التقارب)، مثل "استخدام (روسيا) سلاح الطاقة في العلاقات الدولية" للضغط على الأوروبيين، إضافةً إلى "محاولات السيطرة" على الجوار الروسي، و"إعادة النظر بالمعاهدة المتعلّقة بالقوّات المسلحة التقليدية في أوروبا"، وفق المصدر نفسه.

كانت فرنسا بين عامي 2008 و2022 تتمسّك بسياسة التهدئة والحوار مع روسيا، على الرغم من تصرّفاتها العدوانية في جورجيا ثم في أوكرانيا

كانت فرنسا بين عامي 2008 و2022 تتمسّك بسياسة التهدئة والحوار مع روسيا، على الرغم من تصرّفاتها العدوانية في جورجيا ثم في أوكرانيا. فالوساطة التي قام بها الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، باسم الاتحاد الأوروبي آنذاك، من أجل حل الأزمة الجورجية صيف 2008، ساهمت في تكريس "المكاسب الإقليمية" المتعلّقة باستقلال إقليمَيْ أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، والتي فرضتها روسيا كأمر واقع مستخدمةً القوة العسكرية ضدَّ جورجيا. وحينها، عارضت فرنسا مع ألمانيا، إطلاق مسار انضمام كلّ من جورجيا وأوكرانيا إلى "الناتو" في عام 2008، في خطوةٍ فُسّرت باعتبارها تهدف إلى عدم إثارة نقمة "الدب الروسي".

عقوبات ومرونة

صحيح أنّ باريس انضمّت إلى سياسةِ العقوبات ضدَّ موسكو منذ بدء الأزمة الأوكرانية وضمّ روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، وألغت، في هذا السياق، صفقة بيع سفينة "ميسترال" الحربية لها. إلا أنّ ذلك لم يكن يعني سوى اتباع سياسة مزدوجة تقوم على "الحوار والحزم" وفق توصيف الباحثة تاتيانا كاستويفا - جان (Tatiana Kastoueva-Jean)، في مقالة لها بعنوان "هل هناك حاجة إلى إعادة ضبط العلاقات بين فرنسا وروسيا، وإذا كان الأمر كذلك، فهل هذا ممكن؟"، نُشِرَت في 9 ديسمبر/ كانون الأوّل 2019 في المنصّة البحثية Russia Matters، التي أطلقها مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية التابع لكلية كينيدي في جامعة هارفارد. وتعني هذه السياسة، وفق كاستويفا - جان، أنّ "فرنسا تلتزم بالدفاع عن أمنها وتضامنها الأوروبي والأطلسي، فضلاً عن القيم الديمقراطية والليبرالية، (لكنها) تحافظ (في الوقت نفسه) على الحوار السياسي والاقتصادي والثقافي مع روسيا (وتسعى) إلى توسيعه". فباريس ظلّت متمسّكة بالحوار مع روسيا وكذلك بـ"الشراكة الروسية - الأطلسية"، اعتقاداً منها بأنّ "أي قطيعة (مع موسكو) من شأنها أن تزيد من مخاطر التصعيد"، كما يذكر الباحث تينينبوم في دراسته المشتركة مع الباحثة زيما، إذ يؤكّدان في دراستهما أنّ سياسة باريس ارتكزت إلى مبدأ مفاده "أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يجب أن تكون له الأسبقية على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي"، كما كانت تضع شرطين للقبول بتوسيع "الناتو": "التوصّل إلى اتفاق مع روسيا وإعادة التوازن إلى العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا، لا سيما من خلال نقل مناصب قيادية (في الحلف) إلى الأوروبيين".

جنوح روسيا نحو سياسة التوسّع والهيمنة أوصل سياسة الانفتاح والحوار التي اتبعتها فرنسا إلى طريق مسدود

الرهان الخاسر

طريقة التعاطي هذه تندرج في إطارِ رؤيةٍ استراتيجيةٍ وضعتها فرنسا في "الكتاب الأبيض - 2008"، تشدّد فيها على ضرورة "تبني الدول الأوروبية نهجاً مشتركاً يقترح على روسيا تعاوناً طموحاً ومتوازناً في الآن معاً". وذلك لأنّ فرنسا كانت تعتقد أنّ "من شأن مثل هذا النهج (...) أن يشجع روسيا على ممارسة قوتها، التي أعادت اكتشافها، بشكل مسؤول". وفي عام 2013، كانت باريس أكثر وضوحاً لجهة شروط استمرارها في سياسة الانفتاح والتعاون مع روسيا. في "الكتاب الأبيض حول الدفاع والأمن الوطني - 2013"، أقرّت باريس بأنّ "توطيد الاستقرار على الأطراف الشرقية لأوروبا" يتطلّب بناء "علاقات تعاون مع روسيا". لكن هذا التعاون كان مشروطاً باحترام "المبادئ التي أقرّها ميثاق باريس 1990" الذي يُعْتَبَر أساسياً لهيكلة الأمن في أوروبا وفرنسا. فهذا الميثاق يشدّد على تعزيز الديمقراطية والأمن، والالتزام باتفاقية القوّات المسلحة التقليدية والإقرار بحريّة الدول في اختيار ترتيباتها الأمنية الخاصة.

من حسابات روسية..

بيد أنّ روسيا مارستْ سياسةً مختلفة مع انتهاكها لجوهر "ميثاق باريس". وتعاملت مع شؤون العالم في العقد الأخير على أساس أنّه ثمّة ملامح ضعف أميركي في السياسة الدولية، وبأنّ لديها إمكانية لاستغلال هذا الضعف. ذلك أنّ تراجع واشنطن عن التدخل العسكري في سورية عام 2013، مروراً بأداء الرئيس الأسبق، دونالد ترامب، الذي، في ظلّ ولايته (2017 -2021)، ترك انطباعاً بأنّ حلف شمال الأطلسي في حالة "موت سريري"، على حدّ تعبير ماكرون نفسه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، وصولاً إلى الانسحاب الأميركي من أفغانستان في عام 2021، كلّها عوامل جعلت موسكو تعتقد بأنّ التراجع الأميركي يمثّل فرصةً سانحةً للهجوم في أوكرانيا (وفي سورية) وإعادة تشكيل معادلة أمنية جديدة وتوازن قوى جديد في أوروبا والعالم.

إلى حسابات فرنسية

في الواقع، لم تتجاهل فرنسا يوماً احتمال تراجع الالتزام الأميركي في أوروبا، في ظلّ انشغال واشنطن أكثر فأكثر بالمنافسة مع الصين في شرق آسيا. وفي حساباتها، لم تقلّل يوماً من أهميةِ انعكاسات أيّ عملية لإعادة التموضع الأميركي على الأمن الأوروبي الاستراتيجي. من هنا مطالبتها المستمرة في إطلاق سياسة دفاع أوروبية. لكن فرنسا ظلّت تراهن على الشراكة مع روسيا من أجل حماية الاستقرار الأوروبي، وعلى الحوار من أجل حلِّ كلّ الخلافات معها في شأن أوكرانيا أو سورية أو الملف النووي الإيراني الخ. والأهم من ذلك يتمثّل في فرضيّة لا تتجاهلها الدبلوماسية الفرنسية منذ عهد الرئيس الأسبق، نيكولا ساركوزي، ومفادها أنّ "عدم التقارب مع روسيا سيدفعها إلى أحضان الصين"، كما يورد الباحث ألكسندر أوليش (Aleksander Olech)، في ورقة بحثية بعنوان "كيف يمكن للعلاقات الفرنسية الروسية أن تؤثر على أمن منطقة بحر البلطيق"، نشرها "المركز الدولي للدفاع والأمن" (إستونيا) في 14 فبراير/ شباط 2022.

لم تتجاهل فرنسا يوماً احتمال تراجع الالتزام الأميركي في أوروبا، في ظلّ انشغال واشنطن أكثر فأكثر بالمنافسة مع الصين في شرق آسيا

هكذا، ذهبت باريس في رهانها على الحوار مع روسيا إلى حدِّ التشكيك في جدوى سياسة العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على موسكو ردّاً على ضم القرم في 2014. وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، جان إيف لودريان، أكّد في 2019، في الوقت الذي كانت محاولات حلّ الأزمة في أوكرانيا تحرز تقدماً إيجابياً، "على أن عدم المرونة تجاه روسيا والارتياب منها منذ العام 2014، لم يكن مثمراً للغاية"، بحسب الكلام الذي نقلته عنه صحيفة لا كروا، في 4 سبتمبر/ أيلول 2019. وأعرب عن أمله آنذاك في أن يساهم الحوار والانفتاح تجاه موسكو "في تحديد هيكل جديد للأمن والثقة في أوروبا"، متذرّعاً بأنّ "الدفء بين أوكرانيا وروسيا علامة مشجعة"، كما أوردت الصحيفة.

مرونة... ولكن

تفسّر المصالح الاقتصادية الفرنسية، إلى حدٍّ ما، هذه السياسة المرنة، ففي عام 2020، وعلى الرغم من العقوبات، كانت فرنسا تحتل مرتبة "المورّد السادس" لروسيا، وبلغت حصّتها في السوق الروسية نسبة 3.5%، وذلك وفق أرقام نشرتها وزارة "المال والاقتصاد والسيادة الصناعية والرقمية" الفرنسية على موقعها الإلكتروني في مارس/ آذار 2021. كذلك، كانت فرنسا المستثمر الأجنبي الثاني في روسيا مع وجود أكثر من 500 فرع لشركات فرنسية (كانت) تستثمر في مختلف المجالات "الغذائية الزراعية، والتمويل، والتوزيع، والطاقة، والسيارات، والبناء/الخدمات الحضرية، والنقل، والطيران والفضاء، والصيدلة"، كما كانت توفّر 160 ألف وظيفة، وفق معطيات الوزارة. وصحيحٌ أيضاً أنّ من أبرز دوافع فرنسا رغبتها في تشكيل نظامٍ متعدّد الأقطاب، قوامه التعاون الدولي، في معادلةٍ لا تستثني روسيا. وهي سياسة تُوّجت في الرفض المشترك، مع ألمانيا وأمم عديدة، للحرب الأميركية ضدّ العراق في عام 2003، بما تمثله هذه الحرب من انتهاكٍ للقانون الدولي ومن تجسيدٍ لسياسة القوّة وللهيمنة الأحادية الجانب على شؤون العالم. بيد أنّ جنوح روسيا نحو سياسةِ التوسّع والهيمنة، خصوصاً في جوارها، وانتهاكها القانون الدولي في حربها ضدّ أوكرانيا في عام 2022، أوصلا سياسة الانفتاح والحوار التي اتبعتها فرنسا إلى طريقٍ مسدود. كذلك، لم تنجح المرونة الفرنسية في تجنّب استدارة روسيا نحو الصين. بل على العكس، تعمّقت العلاقات الروسية - الصينية أكثر فأكثر. ومن المنظور الفرنسي والغربي، لا يمكن التقليل من مخاطر أيّ تقارب أو تحالف صيني - روسي، ومن تأثيره على توازن القوى في أوراسيا والعالم. وهذا ما يجعل شرق أوروبا ميداناً محورياً ستبذل فرنسا وأوروبا، وليس فقط الولايات المتحدة الأميركية، كلّ ما بوسعها، وسوف توظّف كلّ إمكاناتها من أجل منع سيطرة روسيا عليها.

نحو المواجهة في شرق أوروبا

وعليه، كانت النتيجة أنّ "الهجوم الروسي في أوكرانيا (دفع) فرنسا إلى مراجعةٍ جذرية لمفهومها للأمن الجماعي على الجهة الشرقية" لأوروبا، بحسب ما ورد في دراسة تينينبوم، الذي يحدّد ثلاثة تغييرات في السياسة الفرنسية ردّاً على العدوان الروسي: "الأول، تشديد اللهجة، وهو ما يترجم (في المقابل) عبر زيادة التوتّرات والإجراءات الروسية المُزعزعة للاستقرار ضد فرنسا"؛ الثاني، بلورة "سياسة نشطة لمساعدة أوكرانيا"، سواء في ما يتعلّق بالمعدّات العسكرية أو الدعم المالي لعمليات الإنتاج أو التدريب؛ أخيراً، يتعلّق الأمر بالتركيز على "الدفاع عن أوروبا" من خلال الدعوة إلى "إنشاء مجموعة سياسية أوروبية، ولكن أيضاً إعادة الاستثمار السياسي في حلف شمال الأطلسي وتسليط الضوء على دوره الأساسي في الدفاع الجماعي". ذلك كله على خلفية النظر إلى روسيا بوصفها "تهديداً استراتيجياً كبيراً لأوروبا في السنوات المقبلة"، وفق ما تذكر الدراسة نفسها، التي تستنتج أنّ كلّ محاولات التقارب والانفتاح "تظهر وهماً حول قدرة الحوار على التأثير على السياسة الروسية" لجهة إضفاء طابع عقلاني عليها. علماً بأنّ الباحث ألكسندر أوليتش (Aleksander Olech)، كان استشرف منذ عام 2020، في ورقةٍ بحثية له بعنوان "إيمانويل ماكرون والعلاقات الفرنسية الروسية في أوقات أزمات التحالفات الدولية"، نشرتها مجلة معهد وارسو، في 18 مايو/ أيار 2020، بأنّ "هجمات روسيا على دول أخرى، وإرسال قوات روسية إلى هناك أو هناك"، على غرار ما حصل في أوكرانيا، و"اتباع سياسة معادية للغرب، قد تكون جزءاً من الأجندة اليومية" للكرملين "نتيجة للثقة المكتسبة حديثاً"، أي الثقة التي منحتها فرنسا لروسيا، خصوصاً عندما استقبل ماكرون نظيره الروسي في فرساي سنة 2017، وبريغانسون، صيف 2019.

الجغرافيا بين الماضي والمستقبل

في الواقع، ليست المرّة الأولى التي تفشل فيها محاولة الانفتاح الفرنسية تجاه روسيا، ففي ستينيات القرن العشرين، وفي إطار سياسةٍ تهدف إلى الاستقلال عن الولايات المتحدة لكن من دون التحالف مع الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، سعت فرنسا، بزعامة الجنرال شارل ديغول، إلى انفتاحٍ كان يهدف إلى الانفراج والتفاهم مع موسكو. لكن من دون جدوى، لأنّ حلف وارسو، بزعامة الاتحاد السوفييتي، أقدم على غزو تشيكوسلوفاكيا للقضاء على "ربيع براغ" في أغسطس/ آب 1968، في خطوةٍ خيّبت أمل الفرنسيين. مقارنة الحدثين التشيكوسلوفاكي والأوكراني مفيدة، لأنّها تُظهر أنّ سياسة التهدئة حيال روسيا لا تؤدّي بالضرورة إلى تفادي سلوكها العدواني تجاه جوارها. ولأنّها تؤكّد مجدّداً أنّ الجغرافيا هي التي لا تزال تحرّك سياسة روسيا إزاء هذا الجوار ودول أوروبا الغربية وحلف الناتو.

تدفع سياسة القوّة كل من روسيا وفرنسا إلى الدخول، من البوابة الأوكرانية، في "لعبة محصلتها صفر"

في هذا المضمار، يشرح الكاتب والصحافي، تيم مارشال (Tim Marshall)، في كتابه "سجناء الجغرافيا"، الصادر سنة 2016، أنّ اهتمام روسيا بالسيطرة على أوكرانيا كان يرتبط بحاجتها للوصول إلى سلسلة جبال الكاربات في شرق أوروبا، كون هذه السلسلة الجبلية تمثّل تاريخياً حاجزاً طبيعياً أمام أيّ جيوش غربية تنوي الزحف نحو روسيا. أما بولندا فكانت تمثّل ممرّاً ضيّقاً في سهول شمال أوروبا الشاسعة التي تبدأ من فرنسا وتنتهي عند جبال الأورال، وتعتبرها روسيا موقعاً استراتيجياً لصدِّ أيّ هجومٍ عسكري غربي مُحتمل نحو أراضيها؛ وهجوم كهذا حصل فعلاً مع نابليون في أوائل القرن التاسع عشر ومع هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، بحسب مارشال. كذلك، تشكل مالدوفا (ومنطقة بيسارابيا سابقاً)، بما تمثّله من سهلٍ يفصل بين جبال الكاربات وسواحل البحر الأسود، ممرّاً للزحف نحو روسيا أيضاً. كلّ هذه العوامل الجغرافية دفعت روسيا، ولا تزال، إلى السعي إلى السيطرة على هذه المواقع مأخوذة بهواجسها الأمنية.

في المقابل، ومن زاويةٍ جغرافية - سياسية معاكسة، تمثل دول شرق أوروبا، بالنسبة لفرنسا والغرب عموماً، "درع حماية" من روسيا، على غرار ما كانت عليه الحال بين الحربين العالميّتين، حين عزّزت فرنسا دورها في دول وسط أوروبا وشرقها لأنّها كانت تعتبرها حصناً منيعاً لها بوجه روسيا الشيوعية. حينها، كانت "فرنسا الجمهورية الرابعة، بوصفها أحد الأعضاء المؤسّسين لحلف شمال الأطلسي، تنظر إلى ما أصبح فيما بعد حلف وارسو في 1955 من خلال منظور الدفاع الجماعي في مواجهة تهديد عسكري مؤكد"، وفق دراسة تينينبوم وزيما.

"لعبة محصّلتها صفر"

تفسّر كلّ هذه الاعتبارات حالة الصراع التي تزدادُ حدّةً اليوم وتبرّر سياسة الحزم الفرنسية وارتباطها برؤيةٍ استراتيجية أطلسية تهدف إلى تعزيز الموقع الدفاعي الغربي في شرق أوروبا اليوم، من أجل ردع روسيا وجعلها تدرك مدى كلفة أيّ خطوةٍ تقوم بها لزعزعة الاستقرار هناك. ولهذا السبب فإنّ فرنسا لا تعتبر الصراع الأوكراني هامشياً. وعليه فإنّ أيّ حضور أو تدخّل عسكري فرنسي في أوكرانيا لا يفترض أنّ باريس ستضحي بجنودها فقط من أجل كييف، بقدر ما يعكس عزمها التصدّي لما تعتبره تهديداً لمصالحها الاستراتيجية وأمنها وأمن أوروبا. ويبدو أنّ حسابات فرنسا تفيد بأنّ حرب أوكرانيا منذ فبراير/ شباط 2022، أظهرت عدم قدرة جيش روسيا على خوضِ حربٍ عالمية بمواجهة الغرب مجتمعاً، كما يعتقد بعض الأكاديميين في الغرب. وبالتالي، يبقى خيار إرسال قوّات فرنسية للدفاع عن أوديسا خياراً منخفض المخاطر.

هكذا، تدفع سياسة القوّة كل من روسيا وفرنسا إلى الدخول، من البوابة الأوكرانية، في "لعبة محصّلتها صفر". فيكون مكسب أحدهما معادلاً لخسارة الآخر، فينخرطان في تنافسٍ أمني من شأنه زعزعة التوازن الأوروبي من جديد، والتذكير بأنّ التاريخ الدموي في القارّة العجوز قد يكرّر نفسه؟

مراجع:  

Jean de Gliniasty, Petite Histoire des relations franco-russes. Entre géopolitique et idéologie, L’inventaire, 2021 ; Tim Marshall, Prisoners of Geography. London, England, Elliott & Thompson, 2016 ; Jean-Claude Mallet, Présidence de la République, Ministère de la Défense, Livre Blanc sur la défense et la sécurité nationale - 2008 ; Livre Blanc sur la défense et la sécurité nationale - 2013 ; Élie Tenenbaum, Amélie Zima, “Retour à l’Est : la France, la menace russe et la défense du « Flanc Est » de l’Europe”, Focus stratégique, n° 119, Ifri, juin 2024 ; Aleksander Olech, “How France-Russia Relations Could Affect the Security of the Baltic Sea Region”, The International Centre for Defence and Security (ICDS) (Estonia), February 14, 2022 ; Tatiana Kastoueva-Jean, “Is a 'Reset' Between France and Russia Needed and, If So, Is It Possible?” Russia Matters, December 9, 2019 ; Aleksander Ksawery Olech, “Emmanuel Macron and French-Russian relations in times of crisis in international alliances”, The Warsaw Institute Review, May 18, 2020.