الأطماع الصهيونية في جنوب لبنان... مستحيل الأمس ممكن اليوم
منذ ما قبل الحرب الأهلية في العام 1975، ينقسم اللبنانيون في توصيف مشكلة جنوب لبنان. لو لم يتحوّل الجنوب إلى "فتح لاند" لما تعرّض للعدوان والاجتياح والاحتلال الإسرائيلي، يحاجج بعضهم. لإسرائيل تصرّفات عدوانية في جنوب لبنان "منذ ما قبل الكفاح المسلّح الفلسطيني في لبنان"، يردّ بعضهم الآخر. "لو احترم الفلسطينيون، ولاحقاً حزب الله، سيادة الدولة اللبنانية وسلطتها على كامل أرضها، لكان من الممكن تجنّب العمليات العدائية الإسرائيلية ضدّ لبنان"، يجزم بعضهم. "لو كانت الدولة قويةً، وجيشها مقتدراً، لما كان ثمّة داعٍ لوجود المقاومة"، يؤكّد بعضهم الآخر.
هذا الانقسام هو، بشكل أو بآخر، انقسام حول شرعية سلاح المقاومة، أو بالأحرى سلاح حزب الله. قِسْم من اللبنانيين لا يعتقد أن هذا السلاح حاجة لبنانية، في مقابل اعتقاد قِسْم آخر، خصوصاً من سكّان الجنوب، ألا بديل له في ظلّ عدم قدرة الجيش على ردع الاعتداءات الإسرائيلية. لتدعيم موقفهم، يذكّر أصحاب هذا الاعتقاد الثاني بالأطماع التاريخية الصهيونية في جنوب لبنان، التي ظهرت في وثائق وخرائط وأدبيات ومواقف صهيونية خلال الحرب العالمية الأولى، قبل اتفاقية سايكس - بيكو" (1916) وبعدها، ووعد بلفور (1917). فما هي قصّة هذه الأطماع الصهيونية في جنوب لبنان؟ هل يجب على اللبنانيين أن يخشوا اليوم تغييراً حدودياً وديموغرافياً نتيجة الحرب المشتعلة بين إسرائيل وحزب الله منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حين فتح الحزب "جبهة إسناد" لغزّة، بعد "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر (2023)؟
ثمّة حرب إعلامية ونفسية تخوضها إسرائيل عبر خطابات لا تخلو من تلميحات لأهداف تتجاوز حزب الله وسلاحه
كثيرة الأبحاث والدراسات التي تتناول مسألة الأطماع الإسرائيلية في جنوب لبنان. سبق أن تناولها الباحث أسعد رزّوق، في كتابه "إسرائيل الكبرى: دراسة في الفكر التوسّعي الصهيوني" (1968)، يوضّح فيه كيف أن طموح التوسّع الإقليمي الإسرائيلي يشمل الضفة الغربية وغزّة والقدس، وكذلك أجزاء من لبنان والأردن وسورية. وتطرق إليها الباحث خليل أبو رجيلي، في ورقة بحثية له (1972)، تثبت وجود أطماع إسرائيلية في أراضي لبنان، مسترشداً بتصريح موشيه دايان، الذي كان وزير الدفاع الإسرائيلي خلال حرب 1967، يقول فيه، من هضبة الجولان، إن "لبنان سيكون الفريسة التالية لإسرائيل".
هذه المسألة مطروحة جِدّياً اليوم. المؤرّخ اللبناني عصام خليفة، الذي يعالجها في مؤلفاته الأكاديمية أيضاً، لا يقلّل من جِدّية المخاطر المحدقة بلبنان، ربطاً بالسياق التاريخي للأطماع الصهيونية. في مقابلة مصوّرة ضمن برنامج "سبوت شوت" في "يوتيوب" (18 أكتوبر 2024)، يشير خليفة إلى وجود "خريطة إسرائيلية تشمل صيدا"، محذّراً من مغبّة تهجير أبناء الجنوب اللبناني في ظلّ تطلّعات اليمين المتطرّف الإسرائيلي من أجل بناء "إسرائيل الكُبرى" التي تشمل لبنان، شارحاً أن "لبنان جزء من التصوّر التوراتي لأرض الميعاد".
توسيع الحدود
صرخة خليفة لم تأتِ من فراغ. بموازاة المواجهات العسكرية والعدوان الإسرائيلي، ثمّة حرب إعلامية ونفسية تخوضها إسرائيل على المستوى الرسمي وغير الرسمي ضدّ لبنان. يتعلّق الأمر بخطابات ودعاية لا تخلو من تلميحات علنية إلى أن أهداف إسرائيل تتجاوز مسألة حزب الله وسلاحه وإعادة مستوطني شمال فلسطين المحتلّة إلى منازلهم. ثمّة أهداف تصل إلى حدّ المطالبة باستيطان جنوب لبنان أو توسيع حدود إسرائيل حتى نهر الليطاني. كان لافتاً في هذا المضمار تصريح المتحدّث باسم الحكومة الإسرائيلية ديفيد مينسر، في 24 سبتمبر/ أيلول 2024، بأن "نهر الليطاني هو حدود إسرائيل الشمالية". يذهب وزير المالية الإسرائيلي، اليميني المتطرّف بتسلئيل سموتريتش، أبعد من ذلك، عندما يعبّر عن أمله في توسيع الحدود إلى عمق الأراضي العربية التزاماً بالكتاب المُقدّس اليهودي، مضيفاً أن "قَدَر القدس أن تمتدّ إلى دمشق"، بحسب مقابلة قديمة له مع قناة Arte الأوروبية، أُعيد نشر مقتطفات منها بحلول العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. أما كبير حاخامي الحاسيديم إسحق غنزنبورغ، فيطلق في أواخر سبتمبر الماضي دعوة علنية من أجل "استيطان لبنان (الذي هو) جزء من الأرض الممنوحة لإسرائيل… إلى نهر الفرات"، بحسب تعبيره.
طوال فترة الحرب المشتعلة منذ 8 أكتوبر 2023، لم تتوقّف المبادرات الصهيونية التي تروّج لاستيطان جنوب لبنان
ترويج الاستيطان
طوال فترة الحرب المشتعلة منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم تتوقّف المبادرات الصهيونية التي تروّج لاستيطان جنوب لبنان. "نماذج ناجحة للاستيطان من الماضي ودروس لجنوب لبنان"، هو عنوان أحد محاور المؤتمر الذي نظمته حركة "أوري تسافون" (أيقظوا الشمال)، عبر الإنترنت، في يونيو/ حزيران 2024. ولا تكتفي رئيسة حركة نحلاه الاستيطانية دانييلا فايس بالتحريض على "إقامة مستوطنات إسرائيلية في غزّة"، بل تلمّح إلى إمكانية أن تصل إسرائيل "إلى وضع يكون فيه استيطان في لبنان أيضاً"، كما ورد في مقابلة لها مع القناة 13 الإسرائيلية، في يناير/ كانون الثاني 2024.
بالإضافة إلى هذه الخطابات الرسمية وغير الرسمية أو الدينية، ينتشر أخيراً فيديو في مواقع التواصل لخريطة "إسرائيل الكُبرى"، تشمل أراضي من السعودية والكويت ومصر والعراق وسورية ولبنان، وكذلك تركيا، ناهيك عن انتشار فيديو آخر لمستوطن يقرأ لابنه قصّة أطفال عنوانها "ألون ولبنان"، تروّج لاستيطان لبنان، وفكرةَ أن "لبنان لنا (للإسرائيليين)"، وفضلاً عن إعلان تروجّه الحركة الاستيطانية الإسرائيلية منذ اغتيال قيادات حزب الله والأمين العام للحزب حسن نصرالله في 27 أيلول، ومفاده أن هناك "شققاً لجنود الاحتياط ابتداءً من 300 ألف شيكل (...) أنتم (الإسرائيليون) أيضاً تحلمون ببيت كبير يطلّ على الجبال وقمم الثلوج ومجتمع دافئ في نحلات أبوتينو، سبط آشر، ونفتالي (أسماء مدن بالعبرية). نحن على بعد قرار استراتيجي واحد من هذا الحلم، لنواصل قضم جنوب لبنان ومنع سكّانه (اللبنانيين) من العودة. ساهموا بحدوث ذلك، انضموا إلينا"، في دعوة واضحة لإطلاق دينامية استيطانية إسرائيلية في جنوب لبنان.
منذ 100 عام: إلى صيدا
هذه النزعة التوسّعية ليست جديدة. يقترح الصحافي ورجل الأعمال البريطاني والقيادي الصهيوني هاري ساتشر (Harry Sacher)، منذ أكثر من 100 عام، أن تتبع الحدود الشمالية لإسرائيل "الأميال الخمسة الأولى من المجرى السفلي لنهر الأوّلي؛ ثمّ خطّ مستقيم إلى الجنوب الشرقي، يتخطّى الطرف الجنوبي للبنان وجبل الشيخ"، وذلك في كتاب من إشرافه عن "الصهيونية والمستقبل اليهودي" (1916). وفيما كانت بريطانيا وفرنسا ترسمان خريطة سايكس - بيكو لتقاسم المناطق التي كانت تحت سيطرة السلطنة العثمانية في المشرق، في العام 1916، راح القياديان البارزان في الحركة الصهيونية حاييم وايزمان وديفيد بن غوريون يطالبان بـ"توسيع الحدود الشمالية لفلسطين لتشمل المناطق المتاخمة للجزء الجنوبي من نهر الليطاني"، بحسب ما يذكر الصحافي أوليفييه بيرونيه (Olivier Pironet)، في مقالة له عن "الأحلام الصهيونية في بلد الأرز"، في ملحق خاص تصدره "لوموند ديبلوماتيك" (2020-2021). كان الصهاينة يطالبون بأراضٍ ستخضع للسيطرة الفرنسية بموجب اتفاقية سايكس - بيكو. وكانوا يعتقدون في بداية عام 1917، أثناء المفاوضات التي أدّت لاحقاً إلى إصدار إعلان بلفور (نوفمبر/ تشرين الثاني 1917) "بأن فرنسا لم تكن تكترث بالبلاد التي تقع إلى الجنوب من بيروت ودمشق، وأن المنطقة بأكملها حتى هاتين المدينتين يمكن المطالبة بها للوطن اليهودي"، كما يكتب فريدريك تشارلز هوف (Frederic Charles Hof) في رسالة جامعية عن "الصهيونية وجنوب لبنان"، في "الكلية البحرية للدراسات العليا" في مونتيري بكاليفورنيا (1979).
بعد إعلان الفرنسيين "لبنان الكبير" (1920)، حاول وايزمان إقناع الجنرال الفرنسي غورو بأهمّية مياه الليطاني بالنسبة لفلسطين
لم تكن الحركة الصهيونية تناور. بينما كان المنتصرون في الحرب العالمية الأولى يبحثون بشأن مستقبل خريطة العالم وكيفية إدارة السياسة الدولية بعد هذه الحرب، خلال مؤتمر السلام في باريس، الذي عُقِد من يناير 1919 وحتى يناير 1920، كانت الحركة الصهيونية تطالب بحدود "للوطن اليهودي" تصل إلى صيدا. هذا ما تظهره مذكرة بشأن فلسطين قدمتها إلى "مؤتمر باريس" في 3 فبراير/ شباط 1919. في إطار سعيها إلى اعتراف الدول في ما تدعيه من "ملكية تاريخية للشعب اليهودي لفلسطين وحق اليهود في إعادة تأسيس وطنهم القومي في فلسطين"، كانت الحركة الصهيونية تأمل بأن تبدأ حدود فلسطين "من الشمال عند نقطة على البحر الأبيض المتوسط، مجاورة لجنوب صيدا"، وأن تشمل هذه الحدود المناطق المليئة "بالمياه في سفوح جبال لبنان حتى جسر القرعون" شرقاً (...).
دوافع مائية واقتصادية
أحد دوافعها الأساسية المعلنة حينذاك يتمثّل في الثروة المائية. تقول تلك المذكّرة إن "جبل الشيخ هو (أب المياه) الحقيقي لفلسطين"، الذي "لا يمكن فصله عنها من دون المساس بأسس حياتها الاقتصادية". كذلك، تطالب المذكّرة بضرورة "التوصّل إلى ترتيب دولي يضمن حماية الحقوق المائية للناس الذين يقيمون في جنوب نهر الليطاني بشكل عام"، والمقصود هنا الاتّفاق على شروط استخدام مياه الليطاني بين الدولة التي ينبع منها، أي لبنان (المستقبلي)، والدولة التي يصبّ فيها أي الكيان الصهيوني، الذي يجب أن تصل حدوده إلى جنوب صيدا، مروراً بمصبّ نهر الليطاني، وذلك يما يخدم مشاريع التنمية في البلدين، كما تورد المذكّرة نفسها. بمعنى آخر، كان التحكّم بالثروة المائية في لبنان يمثّل مسألةً حيويةً وفق المنظور الصهيوني للكيان قيد التأسيس: "الحياة الاقتصادية في فلسطين، شأنها شأن أي دولة شبه قاحلة، تعتمد على إمدادات المياه المتاحة. لذلك، من الضروري بشكل حيوي، ليس فقط تأمين جميع مصادر المياه التي تغذّي البلاد أصلاً، بل أيضاً القدرة على الحفاظ عليها والتحكّم فيها من مصادرها"، بحسب مذكرة 3 فبراير 1919.
دوافع أيديولوجية.. وأمنية
بالإضافة إلى الدوافع المائية والاقتصادية، التي سيشدّد عليها وايزمان، في العام 1920، في مراسلاته مع اللورد رئيس المجلس، البريطاني آرثر جيمس بلفور (كان وزيراً للخارجية حين أصدر وعده بقيام وطن قومي لليهود في فلسطين)، ثمّة أيضاً دوافع أيديولوجية وراء محاولة ضمّ جنوب لبنان إلى "الدولة اليهودية". من منطلق "الأسبقية" في الأرض، التي يتم طرحها لتبرير مقولة "الملكية التاريخية" لليهود في فلسطين، يستند الصهاينة إلى "الكتاب المقدّس" للادعاء بأن "أرض إسرائيل" تشمل، بين ما تشمل، الأراضي التي انتشرت فيها قبيلة نفتالي اليهودية في ضفّتي نهر الليطاني، وتلك التي عاشت فيها قبيلة أشير اليهودية في منطقة صيدا، التي كانت تضمّ أقليةً يهوديةً في التاريخ المعاصر، كما يشير بيرونيه.
لم تقتصر الدوافع الصهيونية على الأبعاد المادّية والأيديولوجية. بل كان هناك أيضاً دوافع أمنية تتعلّق بحماية المستوطنات في الجليل الأعلى، خصوصاً بعد معركة تل - حاي، في مارس/آذار 1920، كما يذكر هوف. حينذاك، أثناء الحرب بين الاستقلاليين السوريين وجيش الانتداب الفرنسي، وقع صدام دموي بين مقاتلين عرب ومستوطنين يهود، استخدمته الحركة الصهيونية ذريعةً للمطالبة بتوسيع الحدود الجغرافية لفلسطين حتى يكون للدولة اليهودية مدىً جغرافي كافٍ لضمان أمن المستوطنات.
مستوطنات في جنوب لبنان؟
بعد إعلان دولة لبنان الكبير، بحدوده التي فرضها الفرنسيون من النهر الكبير شمالاً وحتى رأس الناقورة جنوباً، في سبتمبر 1920، اعتبر الصهاينة أن هذه الحدود تمثّل "كارثةً". لكن عبثاً حاول وايزمان إقناع الجنرال الفرنسي هنري غورو (معلن تأسيس دولة لبنان الكبير) "بأهمّية مياه نهر الليطاني بالنسبة لفلسطين"، كما يروي وايزمان في مذكّراته. ولاحقاً، فشلت محاولة التواصل مع سلطات الانتداب الفرنسي من أجل الحصول على إذن لتشييد مستوطنات صهيونية في جنوب لبنان، في عشرينيات القرن العشرين. الفرنسيون كانوا يدركون أن امتداد المشروع الاستيطاني، حتى هذه المنطقة، سيشكل حجّةً في المستقبل لمطالبة الحركة الصهيونية بتعديل الحدود وصولاً إلى صور وصيدا، بحسب ما يورد هوف في رسالته الجامعية. الموقف الفرنسي قطع الطريق على المساعي الصهيونية كلّها لوضع موطئ قدم في لبنان. لكن الأطماع في أرضه لم تنته.
عام 1936: الإصرار
أحداث العام 1936 في فلسطين، شكّلت فرصةً لإعادة التعبير عن الرغبة في حيازة جزء من لبنان. على وقع تنامي الهجرة اليهودية إلى فلسطين، انفجرت ثورة فلسطينية في العام 1936 ضدّ الانتداب البريطاني، الذي كان يعمل بشكل ممنهج لتعبيد الطريق أمام إقامة دولة لليهود مجاورة لدولة أخرى للعرب. وشكّلت بريطانيا "اللجنة الملكية لفلسطين"، برئاسة اللورد روبرت بيل، للتحقيق بشأن الوضع بعد ثورة 1936. في يوليو/تمّوز 1937، أصدرت "لجنة بيل" توصيةً بتقسيم فلسطين بين دولتَين يهودية وعربية. واقترحت اللجنة مشروعاً لنقل السكّان، وبالتحديد نقل 200 ألف فلسطيني من مناطق ستُخصّص للدولة اليهودية في مقابل نقل "أكثر من 1000 يهودي فقط" من أراضي الدولة العربية. ردّاً على توصيات "لجنة بيل"، انقسمت قيادة الحركة الصهيونية بين مؤيّد ومعارض. أما بن غوريون فكان من بين المؤيّدين بحذر. لكنّه كان يتبنّى موقفاً يعتبر فيه أن "الدولة اليهودية داخل أرض إسرائيل التوراتية ليست هدفاً نهائياً، وأن هذه الدولة اليهودية ستشمل، يوماً، شرق الأردن وجنوب لبنان"، بحسب ما ورد في كتاب من إعداد الأكاديميين إيران كابلان وديريك بنسلار وديفيد سوركين عن "أصول إسرائيل" (2011). موقف بن غوريون هذا يعكس إصراراً صهيونياً سيعود ويبرز بقوة إبّان أول حرب عربية -إسرائيلية في العام 1948.
تحدّث بن غوريون عن مشروع إقامة دولة مسيحية، معتبراً أن تحقيقه غير ممكن من دون تضييق حدود لبنان
كاد بن غوريون أن يحقّق "الحلم"
مع اندلاع الحرب، منتصف شهر مايو/ أيّار، "تحدّث بن غوريون عن غزو جنوب لبنان حتى الليطاني، ما يفترض غزو الجليل الأوسط"، الذي كان جزءاً من أراضي الدولة العربية في فلسطين، بموجب قرار التقسيم 181، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947. هذا ما يكشفه المؤرخ بيني موريس (Benny Morris) في كتابه عن تاريخ تلك الحرب (2008). وفي ما يتعلّق بالجليل الأوسط، يُؤكّد موريس أن "بن غوريون كان يأمل أن يقع هذا الجيب في أيدي الإسرائيليين، وأن "يخلو من العرب"، كما قال أمام مجلس الوزراء في 26 من سبتمبر/ أيلول 1948. بالفعل، سقط الجليل الأوسط وهجَّر الفلسطينيون منه، وغزت القوات الإسرائيلية جنوب لبنان منتصف ليل 30-31 أكتوبر/ تشرين الأول، واحتلّت عدداً من القرى وصولاً إلى نهر الليطاني. ولم تنسحب من معظم الأراضي اللبنانية (باستثناء القرى السبع) سوى في مارس/ آذار 1949، بعد توقيع اتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل، التي تنصّ على انسحاب إسرائيل إلى "حدودها الدولية"، بحسب موريس. وإذ يشير المؤرّخ إلى أنها "كانت المرّة الأولى التي يعبر فيها الإسرائيليون حدوداً دولية معترفاً بها ويغزون دولةً عربيةً ذات سيادة"، أي دولةً عضواً في منظّمة الأمم المتحدة، فهو يؤكّد أيضاً أن الغزو تمّ بقرار من بن غوريون، وأن الإسرائيليين كانوا "مدفوعين باعتبار أن نهر الليطاني يوفّر حدوداً طبيعية لإسرائيل يمكن الدفاع عنها".
تقاسم المياه بدلاً من ضمّ الأرض
بيد أن إسرائيل لم تتمكّن من فرض الاحتلال أمراً واقعاً مستداماً آنذاك. حاول القادة الصهاينة، مقايضة الانسحاب العسكري فقط، بمكاسب سياسية مادّية تتمثّل بتوقيع اتفاقية سلام وتقاسم الثروة المائية التي يوفّرها نهر الليطاني مع دولة لبنان. ذلك أنه خلال مفاوضات الهدنة في مدينة لوزان السويسرية، "اقترحت تلّ أبيب تحويل الحدود الفاصلة بين البلدين بموجب معاهدة سلام إلى حدود رسمية معترف بها دولياً"، كما ورد في الرسالة الجامعية لفريدريك هوف. أي كانت "مستعدّةً للتخلّي عن المطالبة الصهيونية التقليدية بجنوب لبنان في مقابل إعلان بسيط للسلام، والذي من شأنه أن يعني نهجاً تعاونياً ثنائياً في ما يتعلّق باستغلال موارد المياه في جنوب لبنان"، بحسب المؤلّف نفسه. لكن لبنان تقدّم باقتراحين مضادّين: "الأول، عودة اللاجئين الفلسطينيين؛ والثاني، تسليم لبنان الجزء من الجليل الغربي الذي خصّصته الأمم المتّحدة في العام 1947 للقطاع العربي من فلسطين المقسّمة"، كما يذكر هوف. لكنّ إسرائيل "رفضت الاقتراح اللبناني، الذي كان من شأنه أن يوسّع جنوب لبنان ليشمل عكّا على الساحل والناصرة في الداخل".
هكذا، لم تتمكّن إسرائيل من استثمار انتصارها العسكري في لبنان في العام 1948، بانتزاع أيّ مكاسب جغرافية وسياسية ومادّية. لكن "حلم السيطرة على جنوب لبنان"، سيظلّ يراود القادة الصهاينة.
تمثّل خطأ حزب الله في الاحتفاظ بسلاحه بعد التحرير الذي وظّفته إسرائيل لصالحها في إعداد العدّة للانقضاض على حزب الله في الفرصة التي تراها سانحةً
محاولة اجتياح لبنان منتصف الخمسينيّات
بعد بضعة سنوات من حرب 1948، وعلى الرغم من اتفاقية الهدنة، حاول بعض هؤلاء القادة إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي خلال العامين 1954 و1955، موشيه شاريت، باجتياح لبنان. هذا ما يكشفه شاريت في "مذكّراته" الصادرة في العام 1978، التي يستعرض نجله، ياكوف شاريت مقتطفات منها، في مقالة له في مجلة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية (1983). يروي موشيه شاريت أنه أوقف مخطّطاً وضعه سلفه (1948-1954) وخلفه (1955-1963) ديفيد بن غوريون، ووزير الدفاع آنذاك، بنحاس لافون، ورئيس فرع العمليات في الجيش آنذاك، موشيه دايان، لتغيير الوضع في لبنان، بشكّل يؤدّي بحكم الواقع إلى سيطرة إسرائيل على الجنوب. في أحد الاجتماعات وفي مراسلات ثنائية، لا يتردّد بن غوريون في دعوة شاريت إلى التحرّك في هذا الاتجاه، وتوظيف الإمكانات (المالية والبشرية) كلّها من أجل تحقيق الهدف، في رسالة مؤرخة في 27 فبراير/ شباط 1954. ويتحدّث بن غوريون عن مشروع إقامة دولة مسيحية، معتبراً أن تحقيقه "غير ممكن من دون تضييق حدود لبنان". ويرى بن غوريون في الرسالة نفسها أن "توسيع حدود لبنان كان الخطأ الأكبر الذي ارتكبته فرنسا" عندما أسّست دولة لبنان الكبير في العام 1920، رافضةً بشكل قاطع جعل الجنوب جزءاً من حدود فلسطين، لتكون لاحقاً حدود الكيان الصهيوني.
هذه المحاولات كلّها من أجل تجسيد الأطماع الصهيونية في جنوب لبنان ومياهه، جرت في الفترة التي كان فيها لبنان دولةَ سيّدةَ، تبسط سلطتها في كامل أرضها. لكن هذه المحاولات لم يُكتَب لها النجاح في المحصّلة. وفشلها يعزّز حجة أولئك الذين يقولون في لبنان، إن الدبلوماسية قادرة على حماية جنوب لبنان من الأطماع الصهيونية التي لا ينكرها أحد. لاحقاً، في حرب 1967، احتلّت مزارع شبعا في سياق احتلالها للجولان السوري، وهي ترفض الانسحاب منها. لكن عندما تحوّل لبنان ساحةً لمنظّمة التحرير الفلسطينية ضدّ إسرائيل، اجتاحت الأخيرة لبنان مرّتين، الأولى في 1978، والثانية في 1982. واستمرّ احتلالها جنوب لبنان والبقاع الغربي حتى العام 2000. صحيح أن حزب الله ساهم في إنجاز عملية التحرير، وأن حرب الاستنزاف جعلت إسرائيل عاجزةً عن تحويل احتلالها أمراً واقعاً، أي ضمّ جنوب لبنان كما فعلت في الجولان في العام 1981. لكن الخطأ الذي ارتكبه حزب الله، ومن خلفه سورية وإيران، المتمثّل في الاحتفاظ بسلاحه بعد التحرير، وظّفته إسرائيل لصالحها من خلال إعداد العدّة للانقضاض على حزب الله في الفرصة التي تراها سانحة، على غرار ما يحصل في هذه الحرب التي يتكبّد فيها حزب الله خسائر هائلة. فهل ما كان مستحيلاً تحقيقه من أطماع صهيونية في جنوب لبنان، على مدى 100 عام، سيكون مرجّحاً اليوم؟
********
المصادر والمراجع
.Benny Morris, “A History of the First Arab–Israeli War”, Yale University Press, 2008
Chaim Weizmann, “Trial and error. Autobiography”, New York, Harper, 1949; Harry Sacher, ed. Zionism and the Jewish Future, New York, Macmillan Co, 1916
Eran Kaplan, Derek Penslar, David Jan Sorkin, The Origins of Israel, 1882-1948: A Documentary History”, Madison, Wis., The University of Wisconsin Press, 2011
Yaacov Sharett, “Controverse historique dans le Journal de Moshe Sharett. L’État juif et l’intégrité du Liban”, Le Monde Diplomatique, Décembre 1983, pp 16-17
Olivier Pironet, “Rêves sionistes au pays du Cèdre”, In “Liban, 1920-2020, un siècle de tumulte”, Le Monde diplomatique, Manière de voir, 174, Décembre 2020-janvier 2021
Frederic Charles Hof, “Zionism and Southern Lebanon : a Historical Perspective on Six Decades of Controversy”, Thesis, Dissertation, Naval Postgraduate School, Monterey, California, 1979
Pre-State Israel: Zionist Organization Statement on Palestine at the Paris Peace Conference (February 3, 1919): https://www.jewishvirtuallibrary.org/zionist-organization-statement-on-palestine-at-the-paris-peace-conference
أسعد رزّوق، "إسرائيل الكبرى: دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني"، بيروت، مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1968.
خليل أبو رجيلي، "المطامع الإسرائيلية في الأراضي اللبنانية"، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 14، أكتوبر 1972، ص 83-90.