من نورنبيرغ إلى لاهاي
مَثُلَ عديدون من قادة ألمانيا النازية في مدينة نورنبيرغ، قبل 79 عاما، أمام قضاةٍ حاكموهم بتهم إبادة اليهود، وجرائم أخرى، في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). اليوم بات بعض من أحفاد الناجين من المحرقة أمام محكمة العدل الدولية بالتهم نفسها، لكن ضد الفلسطينيين. ولاكتمال المشهد، المُرافع الوحيد في الدعوى ضد الاحتلال الإسرائيلي بلد عانى من استعمار وعنصرية ضمن نظام "الأبارتهايد" عقوداً، وهو جنوب أفريقيا.
سوريالية تاريخية لن يُمحى لها أثرٌ في السجلات التاريخية بعد سنوات طويلة، وستُذكَر أنها المحاكمة الأولى بهذه الأهمية لإسرائيل. صحيحٌ أن من استشهد في غزّة، ومن تعرّض لإصابة دائمة، ومن نُزح من منزله، ومن دُمّرت أحلامُه، لن يتلقّى شيئاً، غير أن الأجيال الآتية، الفلسطينية خصوصاً، ستعلم ما الذي قاساه أسلافها، تماماً كما يدرك ذلك أحفاد الناجين من المحرقة. هذه الأجيال ستحمي حقاً سيُستردّ على وقع ظلم لم ينتهِ بعد.
سيُقال الكثير عن الدول منتصري الحرب العالمية الثانية، سواء التي غطّت الاعتداءات الإسرائيلية في العقود الماضية، أو التي تجاهلت حقيقة ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتصرّفت وكأن الأمر لا يعنيها، في مقابل رفعها شعارات حقوق الإنسان والعدالة والمساواة وغيرها. غير أن الجوهر العميق الذي صاغته جنوب أفريقيا حافظ على الحدّ الأدنى من قيمة إنسانية أخلاقية في عالم اصطفّ إلى ضفة الشرّ. ربما، قد لا تنجح المحاولة في إدانة إسرائيل، لكنها خطوة أكثر من مركزية لإشعار من تمادى في إشاحة ناظريه عن المجازر الإسرائيلية في قطاع غزّة وغيرها في فلسطين، أن هذا النوع من غضّ النظر لن يبقى مسموحاً له، وأن الخوف من اللوبيات الإسرائيلية في العالم لا بدّ أن ينكسر. تحطيم جدران الخشية يبدأ من المواجهة أولاً، وثانياً حتى الإمبراطوريات لا تدوم. هكذا يُدرَّس التاريخ.
لو كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قادراً على التأمل لحظة، ومقارنة ما يحصل في لاهاي بما حصل في نورنبيرغ، لوجد نفسَه في موقع اتهامي لا نجاة له منه. ولو أراد وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت الإطلاع قليلاً على ما نُعت به أسلافه في معسكرات النازية، لرأى نفسه لا يختلف عن قادة نازيين نعتوا يهود هذه المعسكرات بأشنع أنواع الصفات. وكان ليجد كرسيّاً متقدماً إلى جانب نتنياهو.
سيُنصف التاريخ الفلسطينيين، أما في زمننا الحالي، فإن في استمرار العدوان على غزّة، على وقع جلسات محكمة العدل الدولية، واقع إسرائيلي بحت، مفادُه أن الاحتلال لا يعبأ، ولن يكترث إلى حين، بما يجري على مستوى العالم، متناسياً أنه، في المدى القصير، قبل التفكير بحقبات بعيدة، سيُصبح الطرف المعزول، كما نظام "الأبارتهايد" في جنوب أفريقيا، حتى أن كوريا الشمالية، بما تتصف من عزلة، ستكون حلماً بالنسبة إليه.
لا يُمكن التقليل من أهمية مثول إسرائيل أمام المحاكم الدولية، لكن أيضاً لا يمكن الشعور بالانتصار السريع، وحرب غزّة مستمرّة وناسها نازحون. فكما أنهى الحلفاء الحرب العالمية الثانية بإسقاط النظامين الياباني والألماني، فإن هناك نهاية على يد أحدهم، لاحتلال إسرائيلي لم يفقه شيئاً من مفاهيم الإنسانية.
من المفترض أن تدفع صورة لاهاي المشابهة لنورنبيرغ الإسرائيليين إلى التفكير العميق بما جنته أيديهم، فها هم أصبحوا في مصافّ النازيين، حتى أنهم يرفضون أن يذكّرهم أحدٌ بمرحلة ما قبل 7 أكتوبر/ تشرين الثاني، وكأن لا شيء كان مولوداً. وإذا كان الاحتلال "لا يفتخر" بماضيه، فأيّ مستقبل له؟ يبقى أن الموساد لاحق النازي الفارّ أدولف إيخمان حتى الأرجنتين، وجلبه إلى القدس المحتلة وحاكمه وأعدمه. ماذا لو انعكست الآية في لحظة مستقبلية ما، وقرّر الفلسطينيون في حينه تحقيق ثأرهم، في حال لم تحقّقه العدالة الدولية؟ لا أحد يمكنه نكران ذلك عنهم. مجازر غزّة شاهدة على ذلك.