من مضر بدران إلى أوباما
ربما يصحّ القول إن أهم كتاب مذكّراتٍ بالانكليزية صدر في عام 2020 هو "أرض موعودة" للرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما. وليس صحيحاً أن "سنوات الجامعة العربية"، لصاحبه عمرو موسى، هو كتاب المذكّرات الأهم بالعربية في هذا العام، بل مذكّرات رئيس الوزراء الأردني الأسبق، مضر بدران "القرار"، وشرح أسباب هذه الأفضلية يطول. وفيما مراجعاتٌ تجري في الصحافات العربية (وبعض الأجنبية) لسنواتٍ عشر مضت على اشتعال ثورات الربيع العربي، فإن مقطعيْن في كتابي أوباما وبدران يدّعي صاحب هذه المقالة أن ثمّة نفعاً للإتيان عليهما في مراجعة هذه السنوات، على ما بين الرجلين من اختلافات شاسعة، وما بين كتابيهما من قضايا تُباعد بينهما. ووحدهم من يعتنقون شتيمة الربيع العربي عقيدة يعتزّون بها من سيرون افتعالاً في الالتفاتة أدناه إلى ذينك المقطعين، عند رئيس أميركا السابق ورئيس وزراء أردني أسبق تولى أيضاً إدارة المخابرات العامة في بلده. أما الذين يقيمون على القناعة بحقوق الشعوب في مطالبها بحريات التعبير وبالتغيير، فسيرونها التفاتةً في محلّها، ووجاهتَها ظاهرة.
كتَب أوباما أنه، إبّان كانت مظاهرات المصريين ضد حسني مبارك ونظامه تتصدّر المشهد العربي، أبلغه قادةٌ عرب، في اتصالاتٍ معه، انزعاجهم (أو مخاوفهم؟) مما قد يُفضي إليه سقوط مبارك، ورهانهم (أو توقّعهم بتعبير أدق) على أن تختار الولايات المتحدة "الاستقرار" وليس "الفوضى"، على ما ينقل عن ملك الأردن، عبد الله الثاني، وهو ممّن "يمتلكون عقولاً إصلاحيةً في المنطقة"، بحسب أوباما في "أرض موعودة"، المذكّرات التي يرد فيها أن "قادة المنطقة كانوا يريدون معرفة لماذا لا ندعم مبارك بقوة"، ومن هؤلاء القادة رئيس حكومة إسرائيل، نتنياهو، الذي "أصرّ" على أن "الحفاظ على النظام والاستقرار في مصر أهم من أي شيء آخر"، فالبديل أن "نرى إيران هناك في ثانيتيْن". أما ملك السعودية، عبد الله بن عبد العزيز، فكان الأكثر شعوراً بالانزعاج، وقناعته أن الإخوان المسلمين وحزب الله والقاعدة وحركة حماس هم وراء مظاهرات المصريين التي تطالب برحيل مبارك. ولكن ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، أكثر وضوحاً (يصفه أوباما بالذكاء)، ويخبر الرئيس الأميركي أن سقوط مبارك وتولّي الإخوان المسلمين السلطة في مصر يعني سقوط ثمانية نظمٍ عربية. ولمّا كان الاتصال الهاتفي بينهما يوم تنحّي مبارك، أو غداتَه، فإن بن زايد يُصارح محدّثه بأن "أميركا ليست شريكاً يُعتَمد عليه في المدى البعيد". ولكن، لماذا كان حاكم الإمارات الفعلي متأكّداً أن الإخوان المسلمين هم الذين سيحكمون؟ الإجابة شديدة البساطة: أي جهاز مخابرات عربي يعرف بديهيّة أن التشكيل السياسي المنظم في الشارع العربي، ولمنتسبيه صلات بالناس، هو "الإخوان المسلمون". ومرّة قال مبارك لصحيفة أميركية إن أي انتخاباتٍ حرّة في مصر تعني حتما فوز الإخوان المسلمين، وذلك لمّا كانت كوندوليزا رايس وزيرةً لخارجية الولايات المتحدة، وتُطنب عن الإصلاحات السياسية المطلوبة عربياً، وعن انتخاباتٍ ينبغي أن تكون حرّة.
قبل نحو عشرين سنة من هذا كله، انتفض الأردنيون في "هبّة نيسان" (1989)، استؤنفت بعدَها الحياة النيابية في بلدهم، لمّا انتخبوا مجلس النواب الأقوى والأهم، والذي لم يتكرّر مثله لاحقاً، ثم منح الثقة لرئيس الوزراء المكلف، مضر بدران، بصعوبة، وبعد ماراثون انتقادي حادّ له ولحكومته، ولم تترك المعارضة وصفاً إلا ورمته به، إلى حدّ أن الملك الحسين استغرب من قدرة بدران على التحمّل، وأبلغه أنه مستعدٌ لحلّ هذا المجلس المنتخَب للتو، غير أن بدران كان يخشى "فشل التجربة البرلمانية الوليدة". يكتب في مذكّراته إنه والملك سمعا، بعد أسابيع في الرياض، من ملك السعودية، فهد بن عبد العزيز، عن اندهاشه (والأميرين عبد الله بن عبد العزيز وسعود الفيصل) من طاقته على التحمّل، وقد شاهد ثلاثتُهم شريطاً مسجّلا لمناقشات النواب الأردنيين، غير أن بدران ردّ على الملك المضيف "إن الديمقراطية في الأردن سببها تأخر المساعدات الخليجية وشحّها"، ويُبلغه بأنه إذا أرادت السعودية حلّ مجلس النواب وإلغاء الديمقراطية في الأردن، فذلك سهلٌ مقابل ثمانية مليارات دولار، لحلٍّ جذريٍّ لمشكلات البلد الاقتصادية. يوافق ملك السعودية، بعد أن يتأكّد ويستوضح أن أمراً كهذا سيحلّ مجلس النواب، فيجيبه مضر بدران إن هذا سيحدُث فورا .. لم يتم هذا، لتفاصيل أخرى.
تلك الواقعة في ربيع 1990 موصولةٌ بما سمعه أوباما في تلك المكالمات الهاتفية، ومؤدّاهما واحد .. إنها قوى الشدّ العكسي العربية، الحاكمة والنافذة، والتي تجلّت لاحقاً في عناوين الثورات المضادّة، تُعاند التغيير وتُخاصم حريات الشعوب، وتخاف من الربيع العربي، ومن الربيع الأردني قبله بعشرين عاماً.