من لا يخاف من كيم جونغ أون؟
لا علاقة لعنوان المقال بفيلم "من يخاف من فيرجينيا وولف" (بطولة إليزابيت تايلور وريتشارد بيرتون، 1966)، كما لا علاقة مباشرة بين الفيلم والروائية البريطانية فرجينيا وولف، وهي من أعظم روائيي القرن العشرين. وإذا كان ثمّة من علاقة فهي بين كيم جونغ أون ودون كيشوت، بطل رائعة سيرفانتس التي كتبها في مطلع القرن السابع عشر، وتُعتبر من أهم النصوص الأدبية عبر العصور، فالمقارنة بين الاثنين مغرية، وتكاد تكون ممرّاً إجبارياً لفهم نزعات (ودوافع) الزعيم الكوري الشمالي الذي يحكم بلاداً فقيرة جداً، رغم أنها تحوز ترسانة نووية يُحسب لها الحساب، خصوصاً في شرق آسيا.
يزور كيم جونغ أون روسيا بالقطار، ويُعتقد أن الرحلة استغرقت ما لا يقل عن 20 ساعة؛ وكلما فعلها، أي استقلّ القطار في رحلة خارجية، يصبح هو الخبر لا الحدث الذي سيشارك فيه، فما سيبحثه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعرفه القاصي والداني، فالأخير يريد من الأول قذائف مدفعية وصواريخ مضادّة للدبابات، والأول يريد مقابلاً يتمثّل بالتقنية الخاصة بالأقمار الاصطناعية والغوّاصات النووية، وموسكو ستمنح ولكن بحدود. لا لأنها تنتظر من بيونغ يانغ تزويدها بالسلاح، ولكن لإيصال رسالة إلى الأميركيين وحلفائهم في المنطقة بأن مفاتيح من يُوصف بمجنون آسيا في أيديها، بعضها وليس كلها على الأقل، وأن بإمكان موسكو اللعب بورقة كيم جونغ أون إذا شاءت، فليتريّثوا قليلاً وهم يعقدون الاجتماعات والقمم ويخطّطون للآتي من الأيام.
ليس الخبر إذاً في لقاء بوتين بكيم، ولا في فحوى المحادثات بينهما، بل في أن كيم جونغ أون استقلّ القطار وهو يرتدي بزّة سوداء متوجّهاً إلى روسيا، وأن هذا حدث بعد أيام قليلة من تدشينه غوّاصة بمقدورها إطلاق صواريخ نووية، وأنه ظهر إذ ذاك بمزاجٍ رائق، ووصف الغواصة بأنها رمز لقوة بلاده الرادعة التي تقذف الرعب في نفوس أعدائها "معدومي الأخلاق".
وأظنّ أن ذلك يذكّر بدون كيشوت، فقد كان بإمكان كيم التوجّه إلى روسيا بالطائرة، لكنه فضّل الاستمرار بالتقيّد بإرث الفوبيا من الطيران الذي لازم والدَه الراحل، ويقضي بتجنّب السفر بالطائرات، حتى لو كان كيم نفسه يجيد قيادتها، وهذا أوجب على كيم العودة (بالزمن والآلة) إلى القطار، تماماً كما أوجب على دون كيشوت استعادة أدوات الماضي في حروبه الكبرى على الأعداء، معدومي الأخلاق، الفاسدين، مصّاصي الدماء، والمتسلطين على الفقراء في الأرياف.
العدو جاهز، وإذا لم يكن موجوداً فمن الضروري خلقه لتكتمل الصورة: صورة الفارس، المقاتل، المنتصر لقيم الحقّ والعدل، وهو ما يفعله صديقنا كيم، فليس المهم أن آخر غوّاصة دشّنها ليست بذلك التطوّر المفترض، بل أن تكون رسالةً إلى من يهمّهم الأمر، وهم في هذه الحالة قائمة طويلة من الأعداء الذين على الفارس أن ينتصر عليهم، بينما هو يستقل قطاراً بطيء الحركة جداً لأنه مصفّح، فليس المهم هو الوصول، وهو لا يستغرق ساعات قليلة جداً من بيونغ يانغ إلى موسكو، بل الرحلة نفسها ورموزها التي يجرّها القطار خلفه كعبوات المعدن الرخيص في رحلات دون كيشوت.
على أنّ ثمة فارقاً حاسماً هنا يجدُر ذكره، فقد يصح أن كيم ودون كيشوت يعبّران عن المفارقة البائسة لفعلٍ غادرَ عصرَه وانتمى إلى آخر، وأعمى عينيه عن رؤية الواقع كما هو، فأوجَد مثاله وصورته، ومن ثم بنى عالماً كاملاً حول هذا المثال ليجعله متماسكاً وذا معنى. قد يصحّ هذا، لكنه في حالة دون كيشوت كان فعلاً يصدُر عن براءة الشخصية وأصالتها، حتى في توهّماتها وتشوّهاتها، ما جعل كثيرين من نقّاد الأدب يرون فيه مدعاة للحزن، لا موضوعاً للسخرية، بينما لا ينطبق هذا على كيم جونغ أون، القادر على البقاء، المستغلّ تناقضات العصر وطموحات ساسته وتضارب مصالح دوله. وأظن أن أفضل من وصف كيم كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الذي رأى أن من وصل إلى السلطة في سنّ مبكرة مثل كيم، في بلد يتصارَع فيها أصحاب النفوذ على السلطة، مثل كوريا الشمالية، واستطاع أن يحتفظ بمكانه هناك، لا يمكن أن يكون إلّا ماكراً، وأظنّ أنّ بوتين يعرف هذا.