من ذكريات العودة إلى المدرسة

02 سبتمبر 2024

(سهراب سبهري)

+ الخط -

الوصول المُبكّر إلى المدرسة ستُبنى عليه تفاصيل بقيّة العام الدراسي، أولها الكرسي، والزميل الذي سيكون بجانبي، لأنّه إذا تأخّرنا، فسنجد الكراسي الأمامية قد حجزت حتّى نهايةِ العام. والزميل تأتي به المصادفة، لكنّ كرسي الجلوس والطاولة يحتاجان إلى تبكير. كذلك بالنسبة للكتب، فالمتأخّر لن يكون نصيبه إلّا كتاباً ممزّقاً بلا أغلفةٍ، بينما سيستحوذ المُبكّرون بالمجيء على جميع النسخ الجديدة، وتلك القديمة نسبياً، بينما المتهالكة ستكون من نصيب آخر القادمين.
لكلٍّ منّا ذكراه في اليوم الأول للدراسة. شخصياً كنت في مطرح حينها، وكانت أمّي تصحبني إلى مدرسة سلطان بن أحمد الإبتدائية. ترتدي أمّي ما يُعرّف محلّياً بـ"الليسو"، ويبرز مفرق الشعر من أعلى الوجه. "الليسو" يكون ملوَّناً عادة، وهي ملابس أظنّها كانت تأتي من الهند، وتباع في سوق مطرح. كنتُ متشبّثاً برداء أمّي أزيحه بسبب القبضة، وهي ترفعه إلى حدود منتصف رأسها. كانت الدموع تسبقني كمن يُذهب به إلى محلٍّ للعقاب. عليَّ أن أفارقها ساعاتٍ طويلة، ولكن حين خرجْتُ وجدّتُها تنتظرني لم تبارح بوابة المدرسة، كانت تنتظر في الشمس طوال تلك الساعات.
كان اليوم الأول صعباً، ولأني وصلت متأخّراً بعد أن استلمني أحد شباب الكشّافة، ونزع يدي من ملابس أمّي، وشرع يبحث ويسأل عن فصلي الدراسي المُفترض، لم يكن حينها نصيبي سوى أحد آخر الكراسي، بين أشخاصٍ يكبرونني في العمر، فعُمانيون كثيرون في وقتنا ممّن تأخّرت بهم الدراسة، وخاصّة أبناء أولئك القادمين حديثاً إلى عُمان، سواء من أبناء المهاجرين بعد استقرار حكم السلطان قابوس بن سعيد، أو من القادمين من أفريقيا وسواحل المحيط الهندي. عُمانيون دفعت الظروفُ آباءهم وأجدادهم إلى السفر والاستقرار بعيداً من بلدهم، ثمّ عادوا في السبعينيّات. في ذلك الوقت، كان والدي يذهب إلى "سوبر ماركت" في منطقة روي، ويشتري أكياساً فيها أقلام ومساطر ومحّايات وبرّايات وكراريس، يتركها عند أمي، فتوزّعها حسب الحاجة، أو تحتفظ بالباقي لانتظار أحد أطفالها أن يكبر ويصل إلى سنّ المدرسة. كنّا تسعة أولاد وبنات، قَبْلَنا كانوا ثلاثة فارقوا الدنيا بسبب أمراض ذلك الزمان، التي كانت تحصد الأرواح بلا هوادة. وكان السكن في مطرح متواضعاً لا يزيد عن غرفتَين، ولكن كان اللعب والفرح على أشدّه. وأبناء الجيران كأنّهم يسكنون في بيتنا.
تصطف حافلات النقل في جوانب الشوارع في انتظار أن تمتلئ. وبعضها كان يذهب ويأتي في دفعتَين بسبب وفرة التلاميذ. ولكن هناك من يقطع الطريق ماشياً، في البداية برفقة أحد والديه، ومع مرور الوقت سيشقّ الطريق وحيداً أو برفقة من يصادفهم من التلاميذ في الطريق. ولكن قد يتباطأ المسير فجأةً حين يقرّر اثنان من التلاميذ العراك، فيتمرّغان في التراب وتتشكّل حولهم حلقةٌ من المُتفرّجين.
حين نصل إلى الصفّ الخامس نرفض أن نضع كتبنا في حقائب، كنّا نعتبرذلك نقيصة. سنحمل الكتب عاريةً ولكنّنا نوثّقها بسيور جلدية، حتّى لا تنزاح وتتساقط في الطريق. وهناك من يتمرّد حتّى على تلك السيور ويتخصّر كتبه غير مبال بسقوط ورقة أو دفتر في الطريق. كانت أكثرالحصص قساوةً هي حصّة الرياضيات، وكان جدول الضرب الأقسى بينها. سيسألك المدرس عن نتيجة ضرب رقمَين، وإذا لم تُجِب في اللحظة المناسبة، فإنّ صفعة ستنقضّ على خدك، وعلى أذنك التي سيخرج منها ما يشبه العويل. لذلك كنا نقضي المساء ونحن نحفظ جدول الضرب وبصوت مسموع مرتجف. لكن لا فائدة، فهذا الجدول العَصيّ ترفض نتائجه أن تستقرّ في الذاكرة. في أيامنا كانت الدراسة أشبه بحلقات تعذيب حقيقية. كان الضرب، وليس التعليم، سيدَ الموقف، ومشهد سحب التلميذ من رجليه ورفعهما لتلقّي علقة وهو يصرخ بكل صوته مستغيثاً.. كان هذا المشهد عادياً. وأتذكّر ذلك التلميذ "بريك"، الذي تخرج الراء مرقّقة حين ينطق اسمَه، وتتحوّل "بغيك". سيكره والده لأنّه لم يختر له إلّا هذا الاسم جالب المتاعب. سأله مرّةً أحد المُعلّمين المُتعطّشين للضرب عن اسمه، وحين نطقه بتلك الطريقة ضربه حتّى يصحّحه، ولكن لا حيلة للطفل في ذلك، حتّى لو ظلّ المدرّس يضربه ثلاثة أيّام. ولم يتوقّف إلّا حين تدخّلنا شارحين له بأنّه لا يمكن أن ينطق راءَ بريك إلّا مرقّقة. حينها فقط توقّفت عصا المعلّم عن الضرب.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي