إنسانيّة القضية الفلسطينية وكسر جليد الهيمنة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
يحتاج الأمر وقتاً طويلاً وصبراً غير هيّن لكسر جليد أحادية الإعلام الغربي، خاصّة في ظلّ هيمنة اللوبيات الصهيونية عليه، هذا الإعلام هو مَنْ يوجّه أنظارَ (وعقولَ) الشعوب الغربية إلى وجهةٍ هو مولّيها. ما كسر ذلك الجدار هو الصور الدامية المؤلمة اللاإنسانية، التي تشكّل عاراً على الضميرين السياسي والثقافي العالميين، التي تأتينا من قطاع غزّة، وجديدها أخيراً صور وفيديو الأب الذي فقد ابنتيه التوأمين في وقت كان يستخرج لهما شهادتي ميلاد، فصارت الولادة ورقيةً مثل الصورة الجامدة للجثَّتَين البريئتَين، إذ تزامن توثيق الولادة مع توثيق الجيش النازي للموت. سيكون الإيجابي في هذا المشهد الدامي والمرعب هذه الصحوة الضميرية المتقعطّعة في العالم الغربي، الذي ظلّت أعينه معصوبةً عن رؤية الحقّ الفلسطيني في العيش، وفي أن تكون له دولةٌ آمنةٌ على غرار جميع شعوب الأرض.
قدّم كلٌّ من الأديب ألبرتو مانغويل والفيلسوفة جوديث باتلر كتاب "الوصايا: شهادات مبدعات ومبدعين من غزّة في مواجهة الموت" (دار مرفأ بيروت، 2024)، جمعت فيه الشاعرة والمترجمة الفلسطينية ريم غنايم 17 وصية لمبدعين من غزّة، بعضهم ارتقى شهيداً بعد كتابة نصّه. يمكننا أن نرى مشاهد تطاول فنّانين نجوم ولاعبي كرة قدم يتوشَّحون الكوفية الفلسطينية، ما يُؤكّد تبلورَ ردَّات فعل ضميرية تخالف جذرياً توجّهات الإعلام الغربي، القائم على غسل أمخاخ شعوب الغرب تجاه أكثر قضيّةٍ عادلةٍ في العالم، ناهيك عن أنّها أكثر قضية تُصوَّر فيها الإبادة كلّ يوم، ومباشرةً من قلب الحدث. صارت هذه الصورة اللاإنسانية المروّعة تخترق جدار العالم "الديمقراطي" بلا هوادةٍ. وربّما سنرى بعد حين انعكاس ذلك كلّه في الفن والأدب الغربيَين، وهذا من الطبيعي أن يحدث، وستكون بذلك فلسطينُ قضيةَ الضمير العالمي الأولى، أو ستستعيد مكانتها الأدبية، التي بدت تُمحَى أو تُنسَى من الضميرين الأدبي والفنّي العالميين.
ظلّ الفلسطيني يصرخ عقوداً "لا تعايشَ مع الألم" ولم يسمعه أحدٌ، وعلى العالم أن يرى بلاغةً أخرى لهذا الألم. لقد بدأت القضية الفلسطنية العادلة بوخز الضمير الغربي، وتفكّك التبعية، ويجب أن نتحدّث هنا عن الأنطمة الغربية بكامل الحرّية، لأنّها أنظمةٌ تقوم على الهيمنة خارجياً على الأنظمة الضعيفة والمهتزّة، وداخلياً على أدمغة شعوبها، والسبب في غاية البساطة ولا يحتاج إلى تأمّل شديد، لأنّ الإنسان بطبيعته وفطرته ضدّ الظلم، وضدّ قتل العُزَّل والأطفال والشيوخ، وبعد ذلك تجويعهم وحصارهم. لكنّ هذا الظلم في السابق لم يكن يصل إلى هذه الشعوب إلّا عبر فلترة إعلامية، من وظيفتها أن تحوّل الجلَّاد ضحيةً لكي تُمكّنه من مزيد من آلات القتل كما تفعل بشكل صارخ، ليس أميركا فقط، إنّما حتّى ألمانيا، بلد أنوار العقول، وغيرها من دول العالم، التي تزوّد الجيش الإسرائيلي بأفتك أدوات القتل، والتي تصبُّ حممها أمام أنظار العالم فوق رؤوس الأبرياء العُزَّل، بما فيهم المرضى في مستشفياتهم، والرضعّ، بل حتّى الأجنَّة في بطون أمهاتهم.
كان المواطن الغربي والأميركي كالأعمى الذي يقوده الكذَّاب، وهو يُخبره بما يريد أن يراه، وليس بما هو موجودٌ حقيقةً. ولكنّ ما حدث الآن، وبسبب وسائل التواصل الاجتماعي، رغم الحصار والتشويه، أنّ ما نفذ من حقائق، رغم قلّتها، نقل جانباً من الصورة اللاإنسانية المرعبة التي تحدث في فلسطين. كان المواطن الغربي لا يرى الفلسطيني إلّا في صورة الإرهابي المُركَّبة، ولكن حين انكشفت وطارت صور القتلى من الأطفال، والنساء، والكهول، والمدنيين الُعزَّل، مع صرخاتهم، التي تكاد أن تخترق جمود الصورة، خدشت هذه الصور جدار الجليد، وعكست لنا مشاعرَ مُتعدّدة، وإن كانت بسيطةً ومتقعطّعةً، من فقرات التضامن الشعبي العالمي.
يقول محمود درويش في رائعته "جدارية": "يا موت هزمتك الفنون جميعها".. الفنُّ يمكنه أن يجد مكانه في حياتنا الموحشة، جداريات من مختلف أنحاء العالم هذه المرّة ستأتينا، ولا بدّ أنّنا على موعدٍ مع تجلّياتٍ فنّيةٍ وإبداعيةٍ كثيرةٍ أيقظتها صورٌ لاإنسانيةٌ مؤلمةٌ "خالدةٌ" جاءتنا من غزّة، لا يمكن أن تمحيها الأيام بسهولة، ستنبعث كلّ مرَّة من الرماد في أشكال جديدة، تُوثّق الجريمة الدولية المشتركة في عالم كنّا نظنُّه مُتحضّراً ومُنصِفاً تجاه أكثر قضيّةٍ عادلةٍ في أروقة الأمم المتّحدة والضمير الرسمي العالمي الغائب، ألّا وهي القضية الفلسطينية.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية