من النيل إلى دير السلطان: الصهيوني حكمًا
ما كتبه السفير المصري في واشنطن على صفحات مجلة فورين بوليسي، بشأن سد النهضة، ليس فقط شكلًا من أشكال تسوّل الحلول من أميركا، لكنه قبل ذلك يكشف عن عوار في الدبلوماسية المصرية، يجعلها تتصرّف على نحوٍ يُكسبها خصومًا جددًا، وخصوصًا في القارّة الأفريقية.
المفهوم من سياق المنشور أن مصر تعاود الطرق على أبواب واشنطن، يأسًا من الاتحاد الأفريقي، وقدرته على التوصل إلى حلولٍ تنهي النزاع على مياه النيل سياسيًا، من دون اللجوء إلى عمل عسكري.
حمل ملف النيل والعبور به إلى الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي يمثل، في وجه من الوجوه، نوعًا من الإهانة للاتحاد الأفريقي، وإنكارًا لدوره ووظيفته، وقبل ذلك يكشف عن انتهازية رخيصة في التعاطي مع هذا الاتحاد.
على بعد ثماني سنوات، وعقب انقلابه مباشرة، كان عبد الفتاح السيسي يسعى، بكل السبل، لكي يلغي الاتحاد الأفريقي قرار تعليق عضوية مصر، والذي اتخذ بعد هذا الاعتداء الصارخ على الديمقراطية وإطاحة قائد الجيش الرئيس المنتخب وسجنه.
في هذه الأجواء، كان الجنرال السيسي مستعدًا للتضحية بأي شيء، للحصول على اعتراف أفريقي، أو بالأحرى إلغاء قرار عدم الاعتراف الأفريقي بسلطة الانقلاب.. هنا تحديدًا، وجدت إثيوبيا الفرصة سانحة، كما لم يحدُث من قبل، للحصول على ما تريد في ملف نهر النيل، فكانت بداية الطريق للوصول إلى اتفاقية إعلان المبادئ، حيث وضع السيسي توقيعه على كل ما تحلم به أديس أبابا.
أبرم السيسي اتفاق إعلان المبادئ في العام 2015، وبعد أقل من عام، كانت إسرائيل قد وجدت طريقًا مفتوحًا إلى القارة السمراء، محمولةً فوق عربةٍ متهالكةٍ يجرّها جنرالٌ بائس، يبحث عن شرعيةٍ لانقلابه بأي ثمن، ليأتي العام 2016، ويطلق رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو، صيحته الشهيرة "إنني أخرج الآن في زيارة تاريخية في أفريقيا، نحن نفتح أفريقيا أمام إسرائيل من جديد".
الآن، بعد ست سنوات، يعلن عبد الفتاح السيسي، من خلال سفيره في واشنطن، أن الاتحاد الأفريقي لا يستطيع حل المشكلة، وأن الحل في واشنطن، على النحو الذي يذكّر بمقولة أنور السادات الشهيرة "99% من أوراق اللعبة في يد أميركا". هنا مرة أخرى، يداهمنا شبح "كامب ديفيد" ومآلاتها الكارثية، والتي حوّلت حلم تحرير الأرض والتخلص من الاحتلال إلى تجارة وارتزاق من بورصة المفاوضات، المفاوضات التي لا تنتهي أبدًا، والتي تتحوّل من وسيلةٍ للحل إلى غايةٍ وهدفٍ في ذاتها، أو هي حرفةٍ ومهنةٍ يعتاش عليها طابور من الحكام المستبدّين الفشلة، صاروا مع الوقت موظفين أو خادمين في مشروع عملية السلام.
فكرة تسوّل الحلول من واشنطن، باعتبارها الراعي الأكبر وولي الأمر الذي يهرع إليه الصغار كلما استشعروا الخطر، لم تعد مجديةً ولا منطقية، إذ تبدو أميركا نفسها زاهدةً في هذا الدور، فضلًا عن أن نظام السيسي اختبر هذه الإمكانية من قبل، ولم يحصل على شيء، إذ كانت حكومة عبد الفتاح السيسي قد طلبت رسميًا، في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أن تكون الولايات المتحدة طرفًا رابعًا في المفاوضات بين أطراف مشكلة سد النهضة الثلاثة، القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، معلنةً أنها تتطلّع إلى قيام الولايات المتحدة بدور فعال، خصوصا في ضوء وصول المفاوضات بين الدول الثلاث إلى طريق مسدود.
حدث ذلك في زمن ترامب الذي كان السيسي يعتبره المثل الأعلى، ويعتبر هو السيسي دكتاتوره المفضل، بل أدلى ترامب، بعد عام واحد من هذا الطلب المصري، بأغرب وأغبى تصريح يمكن أن يصدر عن البيت الأبيض، حيث قال، بالحرف الواحد "قلتها، وأقولها مجدّدا وبصوت عال وواضح، سوف يفجّرون ذلك السد. عليهم أن يفعلوا شيئا ما".
كثيرون اعتبروا ذلك التصريح ضوءًا أخضر من الإدارة الأميركية للسيسي، لكي يستخدم الحل العسكري في النزاع مع إثيوبيا، غير أن شيئًا من ذلك لم يحدُث، وأظن أنه لن يحدث، كون السيسي، ببساطة، ليس مهمومًا بموضوع المياه، بقدر ما هو منشغلٌ بإرضاء اللاعبين الكبار، الإقليميين والدوليين، في وقتٍ يبدو فيه واثقًا تمام الثقة من أنه أنهك الداخل إلى الحد الذي لم يعد أحد يتوقع معه أي ضغوطٍ شعبية مؤثرة.
وسط هذا المناخ الكئيب من البؤس والعجز وقلة الحيلة، لا يجد سفير السيسي ما يستدر به العطف الأميركي، وبالتبعية الإسرائيلي، سوى التذكير بأن مصر كانت أربعين عامًا الموظف المطيع في "عملية السلام"، والحارس الوفي على"كامب ديفيد"، فيكتب "نحن احترمنا اتفاقاتنا مع إسرائيل وشجعنا اتفاقات الدول العربية مع إسرائيل. وخلال 40 عاما، كانت أميركا ومصر على تفاهم وتشاور كامل ومفيد قبل اتخاذ القرارات. نحن نريد تدخل الرئيس الأميركي للمساعدة في الوصول إلى اتفاق بضمان أميركا".
باختصار: نحن نريد كامب ديفيد أخرى خاصة بمياه النيل، لم يكتبها السفير في مقاله، لكنك يمكن أن تستنتج أن هذا هو المتوقع من التدخل الأميركي.
تقول الوقائع إن الحضور الأميركي في أية مشكلة بالشرق الأوسط يستدعي معه الحضور الإسرائيلي، ويفرضه على الجميع، ليس فقط لأن واشنطن لا تتخيّل معادلاتٍ أو حساباتٍ للشرق الأوسط من دون إسرائيل، وإنما لأن الولايات المتحدة باتت لا تستطيع التحرّك شرق أوسطيًا، على غير رغبة تل أبيب.
وعلى ذلك، لا يمكن تصوّر الوضع مع تسليم كل المفاتيح والأوراق إلى واشنطن، من دون حضور إسرائيل. أما إذا أردت أن تتخيّل الصورة مع الحضور الصهيوني، فيكفيك أن تتأمل ما جرى في دير السلطان بالقدس قبل أيام قلائل، حين حاول إسرائيليون من أصل إثيوبي اقتحام الدير المملوك للحكومة المصرية والاستيلاء عليه، لتتدخل قوات أمن الاحتلال لفضّ الاشتباك، وتكون حكمًا بين المتنازعين، ثم ينتهي الأمر بمشهد الكاهن القبطي المصري ممدّدًا على الأرض بعد أن قيد الجنود الصهاينة وثاقه وشلوا حركته.