ثورة في سنّ اليأس ... من الموت لأميركا وإسرائيل إلى الحياة معهما

16 فبراير 2023

إيرانيات يرفعن شعار الموت لأميركا في مسيرة في طهران في ذكرى الثورة (11/2/2022/الأناضول)

+ الخط -

يصدق الواقع شعارات الإمام الخميني "الموت لأميركا والموت لإسرائيل" فمنذ وصوله إلى طهران احتل أنصاره السفارة الأميركية، وأغلق سفارة إسرائيل ومنحها لمنظمة التحرير الفلسطينية. بعد 42 عاما لا تزال ثورته ترفع الشعارات ذاتها، وفي حال صراع معهما كلف البلاد حصارا لا يزال قائما، وحروبا ساخنة حينا وباردة أحيانا، وقد يتحول البرود إلى سلام بارد وفي السر قد يكون دافئا.
في الأسبوع الماضي بدت ثورة في سن اليأس. في الوقت الذي حشد فيه نظام الثورة جمهوره في ذات الساحة التي استقبلت الخميني وأوصل رسالة واضحة، هزمت الثورة المضادة ولا يزال الشارع معنا يردد شعاراتنا "الموت لأميركا والموت لإسرائيل"، وكأن الخميني وصل للتو من باريس. بعيدا عن صخب الشوارع، وفي "ساحات الصراع" حسب تعبير الحرس الثوري كانت الصورة مختلفة، يتحول فيها العداء إلى تعاون. يوم الاثنين كان يوما تاريخيا في إسرائيل، بفضل نجاح حزب الله في اتفاق كاريش النفطي في المفاوضات "غير المباشرة" (هذه مثل المحلل في الطلاق البائن) وللمرة الأولى، وبتواطؤ حزب الله صارت دولة العدو مصدرة يوم الاثنين للنفط، ومن حقل كاريش المسروق من الفلسطينيين.
تتمتع إسرائيل الآن بالاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، مما قلل من اعتمادها على الفحم، وساعد في تهدئة العلاقات مع جيرانها من خلال اتفاقيات التصدير إلى مصر والأردن، على الرغم من أنها لا تزال تستورد غالبية نفطها الخام.
في حين أن كاريش هو حقل غاز في المقام الأول، فإن نجاح إنتاج النفط المصاحب لها أمر بالغ الأهمية لاقتصاديات مشروع إنرجيان، وفقًا لأشخاص مطلعين على الأمر.
السعر الذي تحصل عليه شركة إنرجيان للغاز الذي تنتجه في كاريش أقل من الأسعار العالمية لأن إسرائيل سوق معزولة نسبيًا. لكن يمكن شحن النفط المصاحب دوليًا بواسطة ناقلة، ومن المتوقع أن تقترب من السعر العالمي لخامها، والذي سيعرف باسم Karish Blend. بحسب الفايننشال تايمز. 
قالت إنرجيان إن شركة فيتول، أكبر متداول نفط مستقل في العالم، لديها صفقة لشراء وتسويق شحنات كاريش على المستوى الدولي.

المؤكد أن "الشيطان الأكبر" كان يعلم ويغض بصره ويفضل الستر على قذف المحصنات من حلفائه

نمت إنرجيان، المدرجة في لندن، بسرعة منذ أن أسسها المصرفي اليوناني ماثيوس ريجاس في عام 2007. وتضاعفت أسهمها تقريبًا منذ عام 2019 لمنحها رسملة سوقية تبلغ 2.2 مليار جنيه إسترليني.
وقال ريجاس إنه سعيد بمساعدة إسرائيل على الانضمام إلى "نادي مصدري النفط الدوليين"، وقال إن ذلك يمثل "علامة فارقة" بالنسبة للشركة.
وهكذا منحت إسرائيل شريان حياة جديدا على وقع الهتاف "الموت لإسرائيل"، ولم يكن شعار "الموت لأميركا الشيطان الأكبر" أحسن حالا، إذ أرسلت طهران "محللا" آخر إلى واشنطن للتفاوض مع "الشيطان الأكبر" حتى لا يقطع تمويله عن الحرس الثوري وساحات الصراع. فؤاد معصوم وزير خارجية العراق كان يفاوض حتى لا يقطع شريان تمويل الحرس الثوري من خلال سرقة موارد العراق المالية. فالكاش الأميركي يتدفق إلى العراق، وبسلاسة يتسرب إلى خزائن الحرس الثوري في إيران، ويظهر في "ساحات الصراع مع العدو" من البرنامج النووي في إيران إلى الحوثي في اليمن إلى نظام بشار وصولا إلى حزب الله في لبنان وما بينهم. هذا ما كاشف فيه المبعوث الأميركي بريت ماكغروك رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في زيارته لبغداد قبل أكثر من شهر، مبررا خفض التدفق من نحو 350 مليون دولار يوميا إلى ثلاثين مليون دولار نقدا وثلاثين مليونا على شكل حوالات. وهو ما تسبب في تداعي الانهيارات من الدينار العراقي إلى التومان الإيراني وصولا إلى الليرتين اللبنانية والسورية.
يصعب الوصول إلى رقم دقيق حول كم موّلت أميركا الحرس الثوري على مدى عقدين منذ احتلالها العراق، فلا توجد وثائق رسمية للفاسدين ومهربي الأموال وغاسليها. المؤكد أن "الشيطان الأكبر" كان يعلم ويغض بصره ويفضل الستر على قذف المحصنات من حلفائه. يمكن في المقابل تقدير حجم المبالغ التي سرقت من الشعب العراقي، وكيف ذهبت معظم موارده إلى مشاريع إيران وجيوب حلفائها من السياسيين الفاسدين. دخل إلى العراق أكثر من ثلاثة ترليونات دولار خلال عقدين شهدا ارتفاعا غير مسبوق في أسعار النفط، صحيح أن البلد تربع على عرش معدلات الفساد عالميا. إلا أنه في المقابل لم يشهد أي مشاريع بنية تحتية تذكر ولا بناء مؤسسات الدولة. 

تواطأت الحكومات العراقية المتعاقبة مع الحرس الثوري الإيراني للالتفاف على العقوبات الأميركية وتحويل المليارات لتمويل برنامج إيران النووي والإرهاب والعدوان الإقليمي

كيف تمت عملية النهب؟ يصدر العراق أربعة ملايين برميل نفط يوميا بمعدل سعر يصل إلى ثمانين دولارا للبرميل، يحول الأميركان نقدا ونقلا بالطائرات ثلاثمئة وخمسين مليون دولار يوميا، ما يقدر شهريا بسبعة مليارات. السبب في ذلك أن العراق لا يزال تحت عقوبات الأمم المتحدة، حماية له من قضايا التعويض التي رفعت عليه بعد غزو الكويت. ولو رفعت العقوبات لنفذت قضايا التعويضات التي خسرها العراق وتقدر بنصف ترليون، منذ شهر تقريبا أغلق الصنبور وصار الدفع بالقطارة. 
لم تنجح مهمة الوفد العراقي برئاسة وزير الخارجية فؤاد حسين في العاصمة الأميركية واشنطن الأسبوع الماضي. مع أن إيران قدمت وجوها "أميركية" أو مقبولة عند الأميركيين. ولم تبحث الوجود العسكري الأميركي في العراق وبحسب مسؤولين عراقيين حاول الوفد الوصول إلى مهلة ستة أشهر حتى ترتيب الأوضاع وإقناع واشنطن بتقديم تسهيلات بشأن التعامل بالدولار وتأجيل العمل بالمنصة الإلكترونية لبيع الدولار، والتي فرضتها الولايات المتحدة على العراق، وهي تتلخص في مراقبة واشنطن الجهات الحاصلة على الدولار وسبب حصولها وطبيعة أنشطتها، إلى جانب أنها تفرض على البنك المركزي العراقي إجراء التحويلات (الدفع) للجهات التي يشتري منها التجار والشركات العراقية المختلفة، بدون أن يحصل التاجر أو الشركة على المبلغ نقداً. ما حصل العكس، قبل الوفد العراقي بما يعتبر "وصاية" مالية أميركية على العراق. 
قبل الوفد بالعقوبات على المصارف ومكاتب الصرافة المتورطة بتهريب الدولار للحرس الثوري، أكثر من ذلك قبل بتولي مصرف جي مورغان في نيويورك إدارة التعاملات المالية مع الصين والمقدرة بثلاثين مليارا سنويا. وفوق ذلك يجري مراجعة مدى الالتزام بعد شهور ثلاثة.
كتب جون هانا مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس ديك تشيني وجويل رايبورن مدير المركز الأميركي لدراسات المشرق، شغل منصب المبعوث الأميركي الخاص لسورية خلال إدارة ترامب، مقالا مشتركا في واشنطن اكسمنر غداة وصول الوفد العراقي، طالبا فيه بوضوح من إدارة بايدن "أن تغلق آذانها" لمطالب المسؤولين العراقيين فبعد أكثر من عقد من الزمان "أساؤوا استخدام وصولهم السهل إلى الدولار الأميركي للسرقة من شعبهم على نطاق تاريخي. والأكثر خطورة من ذلك، تواطأت الحكومات العراقية المتعاقبة مع الحرس الثوري الإيراني للالتفاف على العقوبات الأميركية وتحويل المليارات لتمويل برنامج إيران النووي والإرهاب والعدوان الإقليمي. وإلى أن يقوم العراق بقمع هذه الأنشطة، يجب على واشنطن أن ترفض أي تواطؤ آخر فيما قد يكون أكبر مخطط لغسيل الأموال في العالم، وهو مخطط يعرض النظام المالي الأميركي وحياة الأميركيين للخطر". واصفا ما يجري في المصرف المركزي العراقي بأنه عملية احتيال آلية يديرها البنك المركزي العراقي تعرف باسم "مزاد الدولار". المزاد هو عملية بدأتها الولايات المتحدة في عام 2004 للسماح للمصارف العراقية بالوصول إلى الدولار بأسعار مفضلة لتمويل الواردات التي تشتد الحاجة إليها. تأتي الدولارات من حساب عراقي في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك يتم من خلاله توجيه عائدات النفط الكبيرة للعراق.

ما هو أسوأ من العجز عن تحقيق الشعار هو العمل عكسه، فلا شيء يبرر سلب موارد العراق

طبعا الكاتب الذي كان مستشار ديك تشيني للأمن القومي لا يقول إن هذه العملية بدأت في عهد تشيني الذي كان الرئيس الفعلي في عهد بوش الابن. وإن أميركا فضلت التعامل مع الشيطان الإيراني على التعامل مع صدام حسين. وفضلته على داعش لاحقا. بعيدا عن نظريات المؤامرة. تسبب التحالف الإيراني الأميركي في العراق في ولادة داعش، وعندما كبر إلى درجة تشكل تهديدا حيويا لمصالح البلدين تحالفا وقضيا عليه. قاسم سليماني والحشد الشعبي كانا يقاتلان على الأرض والتحالف الأميركي الدولي في الجو ومعهم الأكراد سواء في العراق أم سورية.
من خلال "المفاوضات غير المباشرة" بين إيران و"الشيطان الأكبر" جاء المالكي رئيسا للوزراء أول مرة، وثبتته القوات الأميركية رغم أنه خسر أكثريته البرلمانية أمام القائمة العراقية التي كان يقودها رجل الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه" إياد علاوي. وفضلت رجل إيران عليه. وهذا ما تكرر مع العبادي وعادل عبد المهدي والكاظمي والسوداني أخيرا. 
بعد أربعة عقود من الثورة الإسلامية تحطمت الشعارات على صخرة الواقع، ليست شعارات الخميني وحده، كذلك شعارات المحافظين الجدد الذين احتلوا العراق لنشر الديمقراطية. 
ما هو أسوأ من العجز عن تحقيق الشعار هو العمل عكسه، فلا شيء يبرر سلب موارد العراق، فعلى عين إيران كشف العام الماضي عن سرقة القرن، نحو ثلاثة مليارات دولار من أموال الضريبة. وأفرج بالكفالة عن المتهم الرئيسي نور زهير بأمر القضاء العراقي ليواصل حياته في دبي. 
يعلم الأميركان حال القضاء في العراق، وحجم الفساد المالي ونهب موارد البلاد من جماعة إيران، يقبلون ذلك ويواصلون رفع شعارات النزاهة والشفافية والديمقراطية، ويتضامنون في الأثناء مع النساء الإيرانيات. ليس كذبا ولا نفاقا. فهم يكرهون نظام الملالي، لكنهم واقعيون يتعاملون معه، ولا يريدون تكرار خطئهم في العراق وأفغانستان. 
ربما يكون ثمن عودة الدولار لجيوب الحرس الثوري هو استمرار تدفق الدولار لجيوب الخزينة الإسرائيلية من حقل كاريش بحراسة الحرس الثوري. وهذا لا يمنع من غارات إسرائيلية في قلب طهران ومواصلة حرث القوافل الإيرانية في سورية. وربما ينسى الناس شعارات حملة  نتنياهو الانتخابية بخصوص إيران.

ليس مطلوبا من إيران في العقد الخامس للثورة أن تتخلى عن شعاراتها، ما يهمنا أن تتوقف عن ممارستها بحق جيرانها العرب

من طبيعة الشعار ألا يتحقق، فهو غاية قصوى قد تتحقق عبر سنوات وربما أجيال. المهم أن تظل مؤمنا به مهما ناورت وهادنت، غير الأخلاقي أن لا تكون مؤمنا به وتعمل عكسه. ما فعلته إيران في منطقتنا العربية ليس عجزا عن تحقيق الشعارات بل العمل عكسها. وخصوصا في العراق. من يفرج عن سارق العصر في أموال الضريبة، ولا يفرج عن عشرات آلاف من شباب العرب السنة المعتقلين ظلما وعدوانا، يمارس شعار الموت للعرب لا الموت لأميركا، التي لا تزال تحتفظ بقواعدها، وتمارس وصايتها المالية، وتغتال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس. والمرونة التي تبديها في التعامل مع حقل كاريش وأموال المصرف المركزي العراقي وسرقة القرن لو مارستها مع خصومها في العراق ولبنان واليمن وسورية لحقنت دماء ووفرت موارد لخدمة شعارتها. 
في العراق يعرف الإيرانيون أن الذي أذاق المحتلين الأميركان الموت هم العرب السنة الذين تهمشهم وتعتقلهم وتحتل مليشياتها مناطقهم وتهجر أهلهم، وفي الوقت الذي قدم العرب السنة في العراق زهرة شبابهم في مقاومة الأميركان وكل ذلك موثق عند الأميركان، كل جندي أين قتل وكيف قتل ومن الجهة التي قتلته، كان جماعتها مشغولين في الانخراط بالجيش والأجهزة الأمنية ومقاتلة المقاومة والهيمنة على مؤسسات الدولة وتهريب الدولارات. 
ليس مطلوبا من إيران في العقد الخامس للثورة أن تتخلى عن شعاراتها، ما يهمنا أن تتوقف عن ممارستها بحق جيرانها العرب. أن تتوقف عن احتلال أرضهم وتهجيرهم وقتلهم. لدينا اليوم مهجرون على يد إيران في سورية والعراق واليمن، وكل سوري مهجر قتل في الزلزال الأخير في تركيا، تتحمل إيران مسؤولية تهجيره ورفض عودته. 
المطلوب من إيران وجماعتها التحلي مع خصومهم العرب والمسلمين الذين يرفعون بوجههم شعار الأمة الإسلامية والأخوة الإسلامية بذات المرونة التي يتحلون فيها مع من يرفعون ضدهم شعارات الموت فالواقع يظل أصدق من أي شعار.

83B64D8F-BC3E-45BA-96A2-36C353D769E9
83B64D8F-BC3E-45BA-96A2-36C353D769E9
ياسر أبو هلالة

كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.

ياسر أبو هلالة