من اللعب بالكرة إلى اللعب بالتطبيع
قبل أيام، وبعد تدخلات أمنية وسياسية في مصر، تم إبطال مفعول قنبلة من العبث في لحظة لا تحتمل العبث، وذلك بالإعلان عن إلغاء مشروع إنشاء نادٍ تابع بالكامل للكنيسة المصرية للمنافسة في مسابقات كرة القدم المحلية.
كان بطلا هذه المغامرة الخطيرة وزير الشباب والرياضة أشرف صبحي، الواعد بالموافقة على تلقي طلب إنشاء النادي، والأنبا رافائيل أسقف عام كنائس وسط القاهرة، الموعود بتنفيذ المشروع، والذي ظهر في عدة مداخلات تلفزيونية، معلنًا عن مواعيد فتح باب الاختبارات للانضمام للفريق الكنسي.
دوافع الكنيسة لتكوين فريق مسيحي للعب الكرة أن هناك تمييزًا ضد اللاعبين المسيحيين في اختبارات الأندية الشهيرة. وقد سجلت في هذا المكان أن هذا لعب بالنار في مجتمع عائم فوق بحيرةٍ من وقود الاحتقان، وأن علاج هذا التمييز الطائفي البغيض الذي يتحدّث عنه كثيرون منذ سنوات يتطلب احترامًا لازمًا بالدستور وإعمالًا للقانون، وليس إلى حلولٍ هي الأخرى طائفية.
وأخيرا، أعلن مصدر مسؤول بوزارة الشباب والرياضة أنه جرى غلق ملف نادي عيون مصر بشكل نهائي، ولن يتم التطرق للحديث عنه مُجددًا، تفاديًا لحدوث أي لغط في المجتمع الرياضي المصري، وذلك بعد التأكّد من الانتماء الطائفي والديني للنادي الجديد، وهو ما يتعارض مع الدستور المصري، وكذلك اللوائح والأعراف الرياضية، فضلًا عن حالة الرفض الشعبي للفكرة، سواء من الأقباط أو المسلمين، منعًا لترسيخ فكرة الانقسام والتفرقة بين نسيج الأمة (صحيفة الشروق المصرية 28 سبتمبر/ أيلول 2022).
لم يمرّ على نزع فتيل أزمة النادي الطائفي سوى أيام، حتى جاء الأسقف رافائيل بصخب آخر وضجيج ناتج عن العبث بواحد من ثوابت الكنيسة الوطنية، كما صاغها البطريرك الأسبق الراحل، البابا شنودة الثالث الذي أعلن موقفًا كنسيًا ضد التطبيع مع العدو الصهيوني، يستجيب لمحدّدات الوطنية المصرية والانتماء القومي العربي، بمقولته الخالدة "لن أدخل القدس إلا بتأشيرة فلسطينية على جواز سفري، ومع صديقي شيخ الأزهر وإخوتي العرب، ولن يكون هذا إلا بعد أن يزول الاحتلال عن القدس، ويصبح المسجد الأقصى تحت سيطرة السلطة الفلسطينية".
تحوّلت تلك المقولة إلى موقف عملي للكنيسة المصرية، لم يهتز إلا مع انقلاب 2013 والتحاق البابا على نحو كامل بمشروع عبد الفتاح السيسي، والذي لاقى ترحيبًا ورعايةً كاملين من الدوائر السياسية والعسكرية والدينية لدى الاحتلال الصهيوني، حتى وصلنا إلى اللحظة التي يتم الإعلان فيها عن وصول أسقف عام كنائس وسط القاهرة الأنبا رافائيل إلى القدس المحتلة في زيارة وصفها مصدر كنسي بالقول "الأنبا رافائيل لم يفعل شيئاً سوى أنه نفذ تعليمات البابا تواضروس الذي أرسله مبعوثاً لعمل قداسات في الخارج"، وذلك في إشارة إلى مباغتة الأنبا تواضروس الجميع بزيارة إلى إسرائيل في العام 2015 كانت أول خرقٍ رسميٍّ كامل لمبادئ الأنبا شنودة الثالث الرافضة للتطبيع.
بالطبع، لم تغب عن المشهد الراهن أصواتٌ مسيحيةٌ وطنية وقومية تعلن استنكارها هذه الخروقات التطبيعية، غير أننا، في النهاية، بصدد تآكل متواصل في الجدار المسيحي الصلب لمقاومة التطبيع، ما يقدّم دليلًا آخر على أن المؤسسات الدينية، المسيحية والإسلامية، صارت تابعة بالكامل للنظام السياسي في مصر، متخليةً عن تلك المساحة الحرّة التي كانت تتيح لها اتخاذ مواقف تتماشى مع المشاعر الشعبية والاعتبارات الوطنية والتاريخية فيما يخصّ العلاقة مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
على أن هذه الانهيارات المتتابعة في الجدران المقاومة للتطبيع ليست قصرا على طبقة رجال الدين، إذ تجد الشيء نفسه في طبقات المثقفين والإعلاميين، بل والقيادات السياسية عالية الصوت التي استمدّت شعبيتها الطاغية من إظهار مواقف صارمة ضد كل محاولات تمرير التطبيع.
والأمر كذلك، يبقى المواطن العربي حائط الصدّ الأخير لكسر هجمات التطبيع، ولعلّ ذلك ما يفسّر سعار الأنظمة المطبّعة ضد الشعوب.