من التغيّر المناخي إلى الانهيار... ليبيا مثالاً
أيامٌ قليلةٌ مرّت على تصريح رئيس هيئة الأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس بأنّنا لم نعد بفي مرحلة التغيّر المناخي بل الانهيار، وجاء كلامه عطفاً على إعلان مرصد كوبرنيكوس الأوروبي أن نصف الكرة الشمالية عانى أسوأ صيف على الإطلاق. بعد تصريحه ذاك، وصل إعصار دانيال إلى ليبيا، وكانت نتائجه كارثية؛ انهيار سدّين ودمار أغلبية مدينة درنة، وخراب واسع في مدن البيضاء وسوسة والمرج، ومقتل عشرات الآلاف.
سمات الانهيار هذا الأعاصير والفيضانات والحرائق وانتشار الأوبئة وذوبان الثلوج وارتفاع درجات الحرارة وغرق المدن الساحلية وارتفاع منسوب مستوى البحر، وإبادة آلاف الأنواع من النباتات والحيوانات والمجاعات، والتصحّر الواسع، وجفاف المياه الجوفية والأنهار، وغيرها.
جاء الانهيار بسبب الاستخدام الكثيف في الصناعة للوقود الأحفوري "فحم، غاز، نفط، وسواه"، وبسبب ارتفاع نسب غاز ثاني أوكسيد الكربون، ما أدى لارتفاع درجات الحرارة، وذوبان الجليد في القطبين؛ وهذا أدّى إلى السمات أعلاها.
يقول غوتيريس إنه لا إمكانية لأنصاف الحلول، أي أن كل تأخير في إيقاف الاعتماد على الوقود الاحفوري يقرّب الوقت من الانهيارات الكبرى للأرض ودمار البشرية، وإن حاجات المواجهة تزيد عن 500 مليار دولار سنوياً. لا يكتفي بذلك، بل يرى أن البيوتات المالية ومجلس الأمن يجب أن تتغير. يقصد الرجل أن المؤسّسات العالمية المهيمنة فشلت في مواجهة التغيّر الذي أصبح انهياراً، وكل المؤتمرات السابقة والمخصّصة للمناخ فشلت بدورها بسبب تلك المؤسّسات، وبالتالي، يحتاج العالم إلى مؤسّسات جديدة وجادّة، بما ينهي أثار الثورة الصناعية في رفع درجات حرارة الأرض، وإعادتها إلى ما قبل تلك الثورة. وبالتالي، لا إمكانية لتجنّب الكوارث البيئية من دون تلك العودة.
تتحمّل مجموعة العشرين بصفة خاصة مسؤولية الانهيار المناخي، وإن هيمنتها وسيطرتها على العالم هما سبب تلك الكارثة
ليست الطبيعة فقط من تثأر لنفسها، فهناك نتائج الحروب الأهلية والفساد، ورفض إشراك الشعوب في تنمية مجتمعاتها؛ ففي ليبيا المنقسمة إلى دولتين، كان يمكن تخفيف أثار الإعصار لو رُمّمت سدود مدينة درنة، وكذلك الحال في كل الدول التي طاولتها الأعاصير والفيضانات والحرائق في الأعوام الأخيرة. تحتاج هذه القضية إلى تغيير سياسي عالمي، وتغيير في سياسات البيئة في ليبيا وفي العالم. وعكس القول السابق، عادت فرنسا وألمانيا إلى استخدام الفحم، بعد إيقاف الغاز الروسي إلى أوروبا، وهذه الخطوات ستعجّل من الانهيار المناخي، فكيف بدولٍ كثيرة لا تزال تعتمد عليه، كالصين والهند، "مصانع العالم"، بسبب رخص ثمنه، وانعدام الشفافية وسيطرة الأنظمة المستبدة والفاشلة، وضعف الوعي بخطورة المشكلات البيئية.
لن تكون هناك استجابة فعلية لصرخات غوتيريس، قياساً على ضعف الاستجابات السابقة لمواجهة التغيّرات المناخية؛ الآن تتجه كل من أميركا وأوروبا والصين وروسيا لفرض نفوذها على أفريقيا وتقاسمها، ولن تنشغل تلك الدول بوضع سياسات حقيقية لإيقاف ذلك الانهيار، وتعدّ أفريقيا من أكثر الدول تضرّراً منه؛ ففي وقتٍ هي بأمس الحاجة للدعم المالي، يحدُث "الهجوم" الدولي عليها، وتكثر فيها الانقلابات العسكرية، والجماعات الجهادية، والحروب الأهلية. الكلام عن ضرورة تغيير السياسات العالمية لمواجهة أحوال الطبيعة بدأ بصفة خاصة منذ 2015 في اتفاق باريس للمناخ، وضرورة خفض حرارة الأرض. ولكن الوضع، منذ ذلك الوقت، ازداد سوءاً في أفريقيا، وفي كل الدول. ولدينا حاليا غزو روسيا أوكرانيا وعودة أوروبا إلى الوقود النووي والفحم ومحاولة إيجاد مصادر للغاز وللبترول من منطقتنا؛ وحين نذكر أوروبا فهي الأقلّ فساداً، والأكثر التزاماً بمواجهة التغيّر المناخي، وها هي تعود إلى ما قبل ذلك الاتفاق، وبالتالي، لن تكون هناك أية روادع لدى الدول الفاشلة، والأخيرة تزداد يومياً في قارّات الأرض، وهي بالتأكيد ستمارس أسوأ أشكال الاستثمار، وبما يعمّق ذلك الانهيار.
تتحمّل مجموعة العشرين بصفة خاصة مسؤولية الانهيار المناخي، وإن هيمنتها وسيطرتها على العالم هما سبب تلك الكارثة، وهناك محدودية الوعي بجوانبها، وعدم استقلالية هيئة الأمم المتحدة ومؤسّساتها يمنعها من الاستجابة القوية ضد سياسات مجموعة العشرين. الأسوأ أن العالم لا يتجه نحو نماذج دولتية تُعنَى بقضايا المناخ أو حقوق الانسان أو النظام الديمقراطي أو الاهتمام بحقوق الناس ودفعهم للمشاركة. حين يُحدّد أن مواجهة الانهيار تحتاج إلى 500 مليار سنوياً، ويجب وضع سياسات لمواجهة التغير والانهيار في مختلف الدول، فهذا يتطلب سياسات تدخلية عالمية واسعة، واستقرارا كبيرا في العالم، وتأمين حاجات ملايين الناس، الذي تهجّروا من مناطقهم بسبب أثار التغير المناخي. انقسام الدول الكبرى يمنع الوصول إلى أيّة سياسات جادّة وتدخلية، ويورّط العالم في حروب بالجملة، وبدايتها الآن أوكرانيا، وهناك من يتوقع حدوث حرب عالمية ثالثة. وهناك الآن أزمة مديونية هائلة تبدأ بأميركا ولا تنتهي بفرنسا والصين، وإن أزمات كهذه ستقف حائلاً دون تخصيص تلك المليارات، ووضع السياسات العلمية لمواجهة الانهيار المناخي.
يبدو أن العالم يمرّ بمرحلة غاية في السوء، ولا تبدو أمامه فرصٌ للنجاة من عوامل انهيار المناخ
إذاً المناخ حاليا هو في مرحلة الانهيار، ولم يعد يعاني من بعض التغيرات هنا وهناك. وبالتالي، سنكون سنوياً أمام كوارث متعدّدة وفي كل قارّات الأرض، وستكون أثارها على الدول الفاشلة والمتخلفة أكثر من المتقدّمة، وهذا بدوره يمنع الأخيرة من تغيير سياساتها العالمية.
يبدو أن العالم يمرّ بمرحلة غاية في السوء، ولا تبدو أمامه فرصٌ للنجاة من عوامل انهيار المناخ. ما يوقف ذلك كله استعادة الشعوب دورها في صنع السياسات، وإحداث التغيير في المؤسسات الدولية وتوجّهاتها كما أشار غوتيريس. الحركات المناهضة للانهيار المناخي ضعيفة، وكذلك الحركات السياسية والثقافية المعنية بالقضية، وهذا يعني أن البشرية في أسوأ أحوالها، من ناحية النظم السياسية، والبيئية، والأسوأ أن أجواء الحروب العالمية تزداد ملامحها؛ في أوكرانيا الصورة جليّة؛ فهناك رفض لاعتماد التفاوض بدلاً من الحرب، وروسيا والاتحاد الأوروبي وأميركا في حالة خلافاتٍ جذرية. في المؤتمر الأخير لقمّة دول العشرين، غاب زعيما الصين وروسيا، وطُرح الممر الهندي الشرق أوسطي إلى أوروبا في مواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهناك مشكلة تايوان الكبرى بين الصين وأميركا، وذكرنا الانقسام حول أفريقيا؛ هذه الأوجه من الخلافات الدولية تتجه للتأزم أكثر فأكثر، فيما السياسات القادرة على مواجهة الانهيار المناخي تقتضي تقارباً في السياسات الدولية، والعودة إلى إعطاء الشعوب حقوقها، حتى تمكن مواجهة آثار الانهيار المناخي.
الوضع الدولي المتأزم وحالة "الصراع" بين الأقطاب يعنيان أننا سنشهد مزيدا من التدهور في أوضاع البشرية، وهذا يضع الأخيرة أمام خيار وحيد وإلّا فالانهيار، وهو تغيير كافة أنظمتها السياسية والاقتصادية، والانتقال إلى أنظمة ممثلة للشعوب، وإيقاف كل عوامل ارتفاع درجة حرارة الأرض، وإعادتها الى ما قبل الثورة الصناعية.