من التصهين إلى التحريض على الفلسطينيين في مصر
سريعًا جدًا، وقبل أن يجفّ حبر بيان تدشين بوتيك التنوير تحت اسم "تكوين" في القاهرة، استانف أحد مؤسسيه ومديريه إبراهيم عيسى معركته الأساسية: استهداف المقاومة الفلسطينية بالأسلحة الثقيلة، بما يبدو معه وكأن التنوير صار رديف تصهين الفكر والخطاب.
لا تشغل نفسك كثيرًا باليافطة البرّاقة التي يعلقها أصحاب "تكوين ستور" على واجهته، أنه مشروع يتعلق بعصرنة الخطاب الديني وتنقيح التراث من الشوائب، فهذا موضوعٌ لا يمكن الحكم عليه قبل أن يطرح "التكوينيون الجدد" خطابهم المتعلق بالمسائل الدينية، كما أن هناك الأزهر الشريف يمكنه أن يتصدّى لمخرجات هذا الكيان الذي تذهب أغلب التقديرات إلى أنه وثيق الصلة بمشروع الإمارات الإبراهيمية.
ما يسترعي الانتباه أكثر هذه التوليفة من أصحاب السوابق في استهداف مشروع المقاومة ومرتكزاته القومية والعقدية، وعلى نحو خاص مسائل مهمة في رمزيتها في الصراع مع الاحتلال مثل المسجد الأقصى والقدس ورحلة الإسراء والمعراج، وهنا يأتي اسم يوسف زيدان منظّراً وقائدًا لمليشيا التنوير الوليدة، والذي أخذ على عاتقه بعد عام 2014 ومع صعود عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، وسط حفاوة صهيونية غامرة، مهمّة تدمير كل الشواهد والحقائق التاريخية التي تؤكّد عروبة القدس وإسلامية المسجد الأقصى، بل ونفي وجوده في فلسطين أصلًا، في تناغم وتضافر مدهشين مع مقولة ديفيد بن غوريون أحد مؤسّسي الكيان الصهيوني يردّد: لا معنى لإسرائيل بدون القدس ولا معنى للقدس بدون الهيكل.
على أن الأخطر من أكروبات يوسف زيدان التراثية الدور الجديد الذي يلعبه تابعه إبراهيم عيسى في هذه اللحظة التي يعربد فيها الكيان الصهيوني في رفح، بعد تدمير غزّة وإبادة أهلها، والخطورة ليست في طرحه الساذج الذي يتفوق به على صهاينة السوشيال ميديا، بل في تحوله إلى التحريض على الناجين الفلسطينيين من محرقة غزة والذين استطاعوا الوصول إلى مصر.
في بداية العدوان الإسرائيلي، اشتغل عيسى على تسويق رواية الاحتلال، وهو ما علقت عليه وقتها بالقول إن إبراهيم عيسى يمارس نوعاً نادراً من التصهيُن يضعه في غلافٍ فاخرٍ من الوطنية الفاسدة، التي يذيبها النظام الرسمي في مياه الشرب، ويبثها في قنوات الإعلام ويدسّها في أعمدة الصحف ومقدّمات برامج التلفزة، وهي بضاعة تروج على نطاق واسع هذه الأيام، وتقوم على فكرة إدانة الضحية وتحميله المسؤولية، لأنه دافع عن وجوده وعن وطنه وعن شرفه، بزعم أنه لم يأخذ في الحسبان ميزان القوة بينه وبين المجرم. ليس هذا فقط، بل هذا الغائط الإعلامي والسياسي لا يتورّع عن إدانة الضحية على ردّ فعله الذي يجرح المعتدي.
هذه المرّة وبعد أن صار عضواً مؤسّساً لكيان مسنود من الدولة المصرية، على حد قوله في مؤتمر الإشهار، ومدعوم بميزانية ضخمة، ينتقل إبراهيم عيسى إلى شيطنة الفلسطينيين في مصر، ويذهب إلى أبعد من ذلك إلى إبلاغ السلطات الأمنية عنهم، ويؤلب الشعب المصري ضدّهم حيث قرّر أن غالبية ضحايا العدوان الذين أتيح لهم الخروج إلى مصر من الحمساويين الإخوان، الذين يهدّدون أمن البلاد بوصفهم، ومعهم ملايين من السوريين والسودانيين واليمنيين، وقودًا لتيار الإسلام السياسي، الذين هم بالضرورة ضد النظام، ثم يعلن غضبه واحتجاجه على فتح مصر أبوابها لهم.
خطورة هذا الهراء كريه الرائحة أنه ليس فقط بلاغًا للأمن المصري بل هو كذلك شحن للمواطنين بمشاعر كراهية وعداء للعرب الموجودين في البلاد، كونهم مصدرًا للخطورة الأمنية والاقتصادية والسكانية وفق مزاعمه، التي لا تنتهي بادعاء أن الشعب المصري لم يؤخذ رأيه في استضافة هؤلاء، إلى الحد الذي لن يكون مستغربًا أن يدعو هذا التنويري إلى تشكيل كتائب تناضل ضد الوجود العربي في مصر.
السؤال هنا: ماذا لو اقتنع عدد من المواطنين بهذه التناول الأخرق لوجود الفلسطينيين النازحين من غزّة في مصر؟ ماذا لو صدق أحدهم أو بعضهم أن هؤلاء جاءوا لتخريب مصر وقرّر التصدّي لهم ومقاومة وجودهم؟