من اغتال مالك بن نبي؟

من اغتال مالك بن نبي؟

27 فبراير 2024
+ الخط -

كان المدخل للعودة الموسّعة لفكر مالك بن نبي، رحمه الله، هو الوقوف على أزمة العالم الإسلامي اليوم من جديد، وقراءة المؤسِّسات الأولى لدعوة البعث الإحيائي لنهضة الأمة، أين تقدّمت وأين تأخّرت، وهو سؤالٌ كبير، ينتهي البحث فيه إلى صدماتٍ عديدة، في بقاء أصل هذه الإخفاقات في واقع الأمة اليوم، والذي قد يختلف في بعض شخوص الخصوم، لكنه لا يختلف في إشكاليات النهوض، وثقافة الإعاقة فيها، بعد مرحلة الصحوة الإسلامية، وانتشارها الضخم، الذي أعاد المسلمين إلى فكر مالك بن نبي، وفلسفة النهضة لديه.
لكنّ الأصول التي طرحها مالك بن نبي، في الخروج من الصندوق المغلق في فكر النهضة، والتحرير العقلي المقاصدي، مستمرّة، وبالطبع هنا مسيرة واسعة لنقاش هذه الأزمة، لسنا في صدد عرضها اليوم، لكني لاحظتُ أن هناك تداخلاً شديداً بين رؤية مالك بن نبي وحياته الشخصية الصعبة، وكفاحه السياسي والاجتماعي، واشتباكاته المعقدة، ليس فقط مع المستشرق الفرنكفوني الضخم، لويس ماسينيون، والذي قصة مالك بن نبي معه مهمّة لنفهمها اليوم، ولكن مع مسارات أخرى. فتوثيقات مالك بن نبي التي لا يتطرّق لها الشك إلا بدعوى أنه يكذب وينسج من خياله، في لقاءاته مع ماسينيون، وفي سعي آخرين لردّه له، وفي حصاره الوظيفي والعلمي، ومعاناته القاسية، وهي دعوى تسقط علمياً بحكم أن مالك بن نبي قد أصدر هذه المذكّرات، وانتشرت وكان معه شهودٌ حولها، فهي حقيقة كبرى، من علامات رحلة مالك بن نبي.

كان مالك بن نبي، في مشكلات النهضة وغيرها، يستدعي الجزائر وأزماتها العديدة

لم تقف الحكاية عند هذا الحد، فمراجعتي مذكّرات مالك بن نبي، قادتني لها نظرياته الكبرى ذاتها، حيث كان، في مشكلات النهضة وغيرها، يستدعي الجزائر وأزماتها العديدة، فضلاً عن رحلته الواسعة في المشرق، وبالذات في مصر، وهي مرحلة مهمّة جدّاً من حياة مالك بن نبي، نزع فيها إلى التحالف مع مشروع جمال عبد الناصر، وحلفائه في آسيا وأفريقيا، وتشجّع كثيراً لدعم مبادرتهم، كونها كانت تمثّل حالة تمرّد شرقية ضد تلك الهيمنة الغربية الشرسة، بل والإرهابية التي كانت تصبّ على الجزائر. كما أن موقفه المختلف عن عبد الوهاب المسيري، في المسألة اليهودية، لاحظت أنه تأثر من حياته الشخصية، إضافة إلى أن المشروع الصهيوني حليفٌ مقرّبٌ للفرنكوفونية الاستعمارية، وقد تقاطعت الأحداث بينهما في حياته في الجزائر وفرنسا. وبالتالي، لاحظت أثر ذلك في رؤيته الكلية للقضية اليهودية، على اتجاه معاكس للمسيري، فاليهود هم الفاعلون المهيمنون، والمسيطرون الأسطوريون على الغرب، وليسوا مهمّة وظيفية للقوة الدولية الإمبريالية الغربية، بعهدها المسيحي القديم، وبروحها الحداثية التي مارست التقدّم الإبادي، من القرون الوسطى حتى العهد الجديد للحداثة، استُثمرت مهمّة هيكل بني إسرائيل فيها، وهي رؤية المسيري.
وهناك تفصيل مهم بين الرؤيتين قد نعود إليه مستقبلاً بعون الله، كما أن حياة المسيري التي تقاطعت هي أيضاً مع فكره، في رحلته الماركسية وفي تجربته الليبرالية، ثم في تقاطعه مع المشروع الناصري، وعلاقته بمحمد حسنين هيكل رجل عبد الناصر وواجهته الثقافية، كانت ذات حضورٍ زمنيٍ كبير في رحلة المسيري، لكن هناك فرق واضح.
وهي أولاً أن حجم المحنة التي صبت من فرنسا ماسينيون، ومن "الجزائر" التابعة لها، على مالك بن نبي حسب مذكّراته، بل ومن القوى التي كانت تمثل واجهات وطنية، مرتبطة بحراك التحرير الوطني والمؤتمرات والفعاليات السابقة له، في سجلّ ثورة الجزائر.

يُصدم القارئ من حجم الكليات الحتمية، التي قرّرها مالك بن نبي على "الحراك الوطني" في الجزائر

نحتت بقوة في ذاكرته، وأثرت قطعاً على حدّة طبعه ورؤاه، والتي قد تكون تسلّلت إلى فلسفته الفكرية، فكان من الضروري أن نراجع بدقّة هذه الحياة، ونفرز الإرث المعرفي فيها، وهل أثّر سلباً وأخطأ فيها غضب بن نبي، أم أنّ خطايا الآخرين عليه، هي أيضاً حكاية مشتبكة مع مشكلات النهضة، وبالتالي لا يُمكن أن نفرزها بعيداً عن عين الرؤية البحثية، والتي لا يمكن أن تُفهم من دون العودة إلى مذكّراته، التي أسماها "العفن"، وأصرّ على أنها تتطابق مع ذاكرته، التي ركّزت على التاريخ الوطني والاجتماعي بين الجزائر وفرنسا. والتي يُصدم القارئ من حجم الكليات الحتمية، التي قرّرها مالك بن نبي على "الحراك الوطني" في الجزائر، وعلى جمعية العلماء التي رآها أمله الكبير عند بداية مشواره، وظلّت رسائله الإيجابية عنها تُطبع في كتبه، وعن إمامها عبد الحميد بن باديس، رغم نقده الحادّ الذي وصل إلى بن باديس، وإن خصّه بمكانة مختلفة، عن كتلة الشيوخ الممثلين للثقافة الإسلامية التي صدّرها الأزهر والزيتونة، وحمّلَهما إثم الفكرة العقيمة في ظنّه، التي تأخّر بها الوعي الإسلامي النهضوي، وهي تعميماتٌ خطيرة، لا يمكن أن تُسلم لمالك بن نبي. وفي الوقت نفسه، لا يمكن أن تُغفل دوافعها، وأهميتها لنا في فهم مشكلات النهضة، عند مالك بن نبي في الإطارات الدينية ذاتها، وفي موقعها الأخلاقي.
ثم في القسم الخاص بالحركة الوطنية في الجزائر وهجومه الشرس على مصالي الحاج وبن جلول وفرحات عباس، وغيرهم، ووضع هذا الوصف للكتلة المنحرفة، بحسب وثيقة مالك بن نبي كعمقٍ للأزمة، وفي حين يظهر لك مالك بن نبي مجاهداً فكرياً نحت الصخر، لإخراج أبناء شعبه، وخصوصاً المهاجرين في فرنسا، من قبضة أدوات القهر الفرنسي، والتي تمثل لديه وسائط تمكين القابلية للاستعمار، وهي نظريّته التاريخية المتوازية مع شروط النهضة. 
حيث شحذ كل فرصة لسبيل تعليم شعبه في باريس، وبعد عودته إلى الجزائر، فهنا كان تفكيره في الانتحار مع زوجته الفرنسية العظيمة الوفية يشير إلى سر التعقّب الذي طارده بشراسة حتى رحيله، وهي خيطُنا الذي نواصل البحث فيه، لنعود بعد ذلك إلى بعثه الفكري ونقده، وأين يبعث فكر مالك بن نبي في رسالة الاستئناف الحضاري الإسلامي الجديد.