من أين لإثيوبيا كل هذا الصّلَف؟
أما الصّلَف في العنوان أعلاه فهو التكبّر والعجرفة. وفي معاجم العربية، الرجل الصّلف هو المتكبّر المتعجرف الذي يدّعي ما فوق قدرِه عُجْبا وتكّبرا. وفي كيْفٍ ما، يجوز أن يُقترَضَ هذا النعت لرميه على إثيوبيا في تعاملها مع مصر والسودان في قضية سد النهضة الذي تستعد لملءٍ ثانٍ له، في الشهرين المقبلين، يوليو/ تموز وأغسطس/ آب، من دون اكتراثٍ بإلحاح البلدين العربين الجارين على وجوب الوصول إلى اتفاقٍ ثلاثي، ملزمٍ ومتوازن، في هذا الأمر، يحدّد نسبة الملء بما لا يضرّ بمصالحهما المائية الحيوية. تُخبرنا وزيرة خارجية السودان، مريم الصادق المهدي، في محاضرتها في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في الدوحة الخميس الماضي، أن رئيس الحكومة الإثيوبية، أبي أحمد، لم يكلّف خاطره، عند الملء الأول للسد في يوليو/ تموز العام الماضي، ويرفع سماعة الهاتف ليُبلغ صديقه (مفردتها بالضبط)، رئيس الحكومة السودانية، عبدالله حمدوك، بهذا الموعد، قبل تنفيذ عملية الملء. وإذا جاز حسبان هذا السلوك، غير المحمود (بين صديقين؟)، قلةً في المروءة، فإن الشواهدَ وفيرةٌ على تكبّر أديس أبابا وعجرفتها الظاهريْن في مضيها بخططها كما تريدُها، بشأن نسب ملء السد، بدعوى أن هذا من حقوقها المؤكّدة، من دون إقامة أي وزنٍ لمختلف الوساطات، وكذا مبادرات حسن النية في جولات تفاوضٍ شاقّة، أبدته القاهرة والخرطوم. وقد أفاضت الوزيرة السودانية في محاضرتها في استعراض تلك الوساطات والجهود، والمواقف الدولية والأفريقية الكثيرة التي أمكن بها مساندة الموقف المصري السوداني المشترك (لم يكن في وقت سابق مشتركا تماما في بعض المحطّات والتفاصيل)، غير أن سؤالا ظل باقيا، ولم تفصّل في إجابته الوزيرة المجتهدة، يتعلق بمصادر القوة التي توفّر لإثيوبيا كل هذا الصّلف. ما هي بالضبط؟ من أين تتأتّى لها؟ هل هي عوامل ذاتية محضة، أم مفاعيل إسناد خارجي؟
لم تُساجل مصر والسودان في حق إثيوبيا في بناء سد النهضة، ولا في حقها في الإفادة منه لتوفير الطاقة الكهربائية وغيرها، بل بادرتا إلى توقيع "إعلان المبادئ" في الخرطوم في 2015، والذي أقرّت الوزيرة بوجود ثغراتٍ فيه تفيد منها إثيوبيا (وقّعه الرئيس المخلوع عمر البشير)، وهو الاتفاق الذي "شرعن" (إنْ جازت المفردة) قدوم شركاتٍ صينيةٍ وإيطاليةٍ وأميركية (ويقال إماراتية أيضا؟) وغيرها للعمل على بناء السد وتوفير لوازمه. وكل ما يطالب به البلدان العربيان اتفاقٌ على نسب الملء، بالنظر إلى أن ما تصرّ عليه أديس أبابا يتسبّب بـ"ضرر كارثي" على مصر التي تستهلك من النيل 90% من مياه الشرب والري. وقد بلغ الصّلف في إثيوبيا (108 ملايين نسمة) رفضها التوقيع على اتفاقٍ شاركت الولايات المتحدة (والبنك الدولي) في رعاية التوصل إليه، في مفاوضاتٍ في واشنطن، فيما قبلت به مصر، في يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط 2020. وقد بدا، أو تأكّد على الأصح، أن أديس أبابا تحترف النهج الإسرائيلي في لعبة المفاوضات وملهاتها، (وهو النهج السوري في بدعة اللجنة الدستورية وغيرها). لا تمانع في العبور من جولة تفاوضٍ إلى أخرى، في هذه العاصمة الأفريقية أو تلك، ولا تعترض على محادثاتٍ فنيةٍ أو غير فنيةٍ (افتراضية في زمن كورونا أو غير افتراضية في غيره)، في القاهرة أو الخرطوم أو أي عاصمة، في عشر سنواتٍ مضت. أما الجاري على الأرض فتمضي فيه بالكيفية التي خطّطت لها. وفي الوقت نفسه، تشيع الحكومة، في إعلام دعائي ظاهر، لمواطنيها، خطابا بطوليا يقوم على الثبات والمرابطة على موقفٍ يقول بملكية شعب إثيوبيا نهر النيل، ليحق له التصرّف كما يريد بمائه، بعد عقودٍ طويلة من تمتّع المصريين بمياه هذا النهر (الإثيوبي!)، حيث المسابح في منازلهم بلا عدد (!).
تفوُّق إمكانات الجيش المصري القتالية برا وجوا، على الجيش الإثيوبي، كاسح، قدراتٍ وتجهيزاتٍ وآلياتٍ وطائراتٍ، فضلا عن أعداد الجنود. وإمكانات الجيش السوداني غير هينة، غير أن القاهرة والخرطوم تُؤْثِران التأكيد، دائما، على التفاوض استراتيجية وحيدة، وإن تفلت من عبد الفتاح السيسي كلماتٌ عن مياه النيل خطّا أحمر، وعن "رد فعل يهدّد استقرار المنطقة" إذا ما تم المساس بحقوق مصر منها (مارس/ آذار 2021). .. هل تعطيل القاهرة والخرطوم الخيار العسكري، مع كثرة كلامهما عن مفاوضاتٍ، وعن رهان (خائبٍ؟) على مجلس الأمن، وأخيرا إحراز بيان عربي مشترك في الدوحة (قالت أديس أبابا إنه أزعجها!)، .. هل هذا يجعل إثيوبيا تستضعف بلدي مصبّ النيل العربيين بكل ادّعائها ما فوق قدرتها عُجْبا وتكبّرا؟ ربما.