من أجل حماية نظام التعليم في غزّة

08 يوليو 2024

معلمة متطوعة نازحة تدير مدرسة متنقلة للأطفال في دير البلح في قطاع غزة (11/10/202 الأناضول)

+ الخط -

نكأ انطلاق امتحانات الثانوية العامّة في فلسطين للعام الحالي (2024)، في 22 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، من دون غزّة جراحاً عميقة في الروح، كأننا أفقنا على صدمة أنّ العملية التعليمية تسير من دون غزّة، أو بصياغة للعبارة أكثر دقّة أنّ غزّة خارج العملية التعليمية. فللمرّة الأولى منذ عقود يُحرَم طلاب قطاع غزّة من تقديم امتحانات الثانوية العامة، أو "التوجيهي" كما نطلق عليها، إذ حرمتْه الحرب المجنونة التي تشنّها دولة الاحتلال على شعبنا من كلّ مُقوّمات الحياة، ولم تُبقِ مؤسّسة تعليمية، ولا صحّية ولا بلدية ولا ثقافية، على حالها. كلّ مُقوّمات الحياة دمّرت أو قوّضت.
سَرَتْ غصّة كبيرة في الروح، حين أطلقت امتحانات الثانوية العامة في الضفّة الغربية، ولم تُعقَد بالتزامن في غزّة، بسبب تعذّر ذلك نتيجة الحرب. وبالطبع، قد نقول لا عيد من دون غزّة، لأنّه لا عيد في غزّة، لكن أيضاً، لن نستطيع أن نقول لا عملية تعليمية من دون غزة، لأن أقلّ الضرر أهون من عمومه، ولأنّ من حقّ أطفالنا وأبنائنا في الأماكن التي تتوفّر فيها فرصة مواصلة العملية التعليمية أن يتمتّعوا بها. أُعطيت فرصة لأبناء قطاع غزّة، الموجودين في مصر، للتقدّم للامتحانات، إذ تقدّم للامتحان قرابة ألف طالب وطالبة في ترتيبٍ بين وزارة التربية والتعليم المصرية وسفارة دولة فلسطين، مع الدولة المصرية. كان معظم هؤلاء الطلاب قد خرجوا من غزّة خلال الحرب مع عائلاتهم، فخرج أكثر من مائة ألف فلسطيني خلال الأشهر التسعة الماضية، وفق تقديرات أوردَتها سابقاً سفارة فلسطين هناك. وهذه خطوة مهمّة وجيّدة، لأنّها تُعطي الفرصة لمن يمكن له أن يستفيد منها، لكنّها بالطبع لا تَحِلّ الأزمة، إذ إن قرابة 39 ألف طالب وطالبة حَرَمَتْهم الحرب من إنهاء مرحلة تعليمهم المدرسي، ومن ثمّ الالتحاق بالتعليم الجامعي.

منذ مائة عام، يقود المُعلّمون الفلسطينيون مدارس بلا عدد في بلدان عربية عديدة، وكانت فلسطين كما تُصدّر برتقال يافا تُصدّر التعليم

للمرّة الأولى منذ قرابة قرن لا توجد عملية تعليمية في قطاع غزّة، إذ لم تتوقّف العملية التعليمة في القطاع أبداً منذ بداية نظام المدارس في البلاد، فشهدت مدينة غزّة وجود مجموعة مميّزة من المدارس المشهورة قبل النكبة، وظلّ الأمر كذلك حتّى بعد النكبة، وتدفُّق عشرات آلاف اللاجئين من مناطق يافا وعسقلان، وما يحيط بهما من قرى، كما من بئر السبع ومنطقة النقب. نعم، ثمّة حقيقة مؤلمة، هذه هي المرّة الأولى منذ عقود، تعود إلى بداية التعليم المدرسي في البلاد، التي لا يذهب فيه التلاميد إلى مدارسهم، وتُوقَفُ العملية التعليمة بالكامل فيها.
منذ مائة عام، يقود المُعلّمون الفلسطينيون مدارس بلا عدد في بلدان عربية عديدة، وكان حضور المُعلّم الفلسطيني مُميّزاً بصورة لافتة. كانت فلسطين كما تُصدّر برتقال يافا تُصدّر التعليم، إذ وصلت البعثات التعليمية الفلسطينية بعض الدول مُبكّراً، قبل عقود من النكبة. وحتّى بعد النكبة، ظلّت فلسطين ترسل مُعلّميها إلى بلدانٍ كثيرة. ولم تكن غزّة استثناءً، خاصّة بعد النكبة، إذ خرج مئات المُعلّمين من مُخيّمات غزّة للتعليم في البلدان العربية، وهذه المرّة لم يقتصر الأمر على منطقة الخليج العربي، بل أيضاً بعض دول المغرب العربي، خصوصاً الجزائر، للمساهمة في عملية تعريب التعليم في الستينيّات وما تلاها. وربّما من المفيد التذكير بأنّ الأميّة تكاد تكون صفراً في قطاع غزّة، وأنّنا إذا قسّمنا عدد طلبة الجامعات والكلّيات والمعاهد الجامعية على عددّ السكّان في القطاع فسنحصل على واحدة من أعلى نسب الالتحاق بالجامعات في المنطقة العربية، وفي منطقة الشرق الأوسط.
هل سيستمر الوضع كذلك؟ ... يطاول ما يجري في الحرب على غزّة كلّ شيء، إذ لم تعد ثمّة مدارس ولا جامعات، كما عُطّل العام الدراسي بالكامل. ومن ثم، ستحدُث "فجوة" تعليمية فيه. لقد استهدفت الحرب الشرسة، التي ما زالت دولة الاحتلال ترتكبها ضدّ شعبنا في قطاع غزّة، المدارس والجامعات والمؤسّسات التعليمية والبحثية، كما استهدفت مناحي الحياة كلها، وطاولت البشر والحجر والشجر. ولكن تخيلوا أن يذهب التلميذ ليحتمي في مدرسته وتأتي الطائرة وتقصف المدرسة، أو ترسل الدبابة إلى فصله المدرسي، الذي لجأ إليه بحثاً عن الأمن، قذيفة تمزّق جسد والده ووالدته.

خسائر قطاع التعليم العالي جسيمة، إذ إنّ 19 جامعة وكلّية تضرّرت إمّا جزئياً أو كاملة، وهذا يشمل جامعات غزّة الأساسية

ثمّة أضرار جانبية كثيرة لا يمكن إغفالها ونحن نتأمّل الحالة الفلسطينية الراهنة في قطاع غزّة، فالتلميذ الذي يعتقد أنّ مدرسته هي بيته الثاني، ويجد هذا البيت وقد صار غير آمن، وأنّه ربّما يُقتَل فيه، إن نجا، فستظلّ تعتمل في نفسه أسئلةٌ كثيرة مؤلمة بشأن المكان والعلاقة معه، وعن مفهوم الأمن ومفهوم النجاة، وعن حقيقة أنّ المدرسة هي بيته الثاني، كما اعتدنا على تعليم أبنائنا. طبعاً، يمكن سحب هذا التخوّف إلى تداعيات كثيرة محتملة للحرب على حياة الجيل الجديد، فالبيت الذي هو أثمن ما يملك الإنسان، وهو مستودع ذكرياته ومرتع أحلامه، بات مصدر الخطر الأول، إذ بات السقف الذي يتأمّله الطفل وهو يفكر في الغد أخطر شيء، قد يقتله إذا سقط عليه إثر قصف البيت. إلى جانب أنّ غزّة تقريباً لم يَعُد فيها بيوت يعود إليها الناس. لذا، تكثر عبارة المواطنين النازحين إلى الجنوب "سنعود، حتّى لو اضطُررنا إلى نصب خيمة فوق ركام بيوتنا". هذه التأثيرات النفسية كلّها سيكون لها تداعيات كبيرة في المستقبل، من شأن هذا كلّه أن يُعقّد مُهمّة استكمال العملية التعليمية.
أمّا التعليم الجامعي، فهذا قصّة مُعقّدة ومختلفة. خسائر قطاع التعليم العالي جسيمة، إذ إنّ 19 جامعة وكلّية تضرّرت، إمّا جزئياً أو كاملة، وهذا يشمل جامعات غزّة الأساسية؛ الأزهر والأقصى والإسلامية، إلى جانب أنّ مرافق هذه الجامعات، سواء المكتبات أو قاعات التدريس أو المختبرات العلمية، تضرّرت تضرراً شبه كامل. ومن جهة ثانية، سيعني توقّف العملية التعليمية بالضرورة تعطّل التعليم الجامعي، إذ على اعتبار أنّ الحرب ستنتهي غداً، وستُفتح الجامعات بقدرة قادر في اليوم التالي، لن تجد الجامعات طلبة وطالبات جدداً ليسجّلوأ فيها. ومن ثم، سيكون العام "الناقص" في التعليم العام "ناقصاً" أيضاً في التعليم العالي. العملية مُركّبة، وربّما يحتاج تجاوزها إلى وقت.
لم توضع الخطط لتجاوز هذا الوضع، ولا لمعالجته. وربّما صدر تصريح هنا، وآخر هناك، إنّ امتحانات الثانوية العامة ستُعقَد فور انتهاء الحرب، وهي تصريحات لا تعكس إلا رغبة في ترطيب نفوس الطلبة المحرومين، لكنّها لا تُقدّم لهم وعوداً حقيقية، ولا منطقيّة، إذ لن يعني انتهاء الحرب أنّ الطلبة سيتمكّنون من تقديم الامتحانات، فهم لم يدرسوا شيئاً منذ بداية العام، ولم يَعُد لديهم كتب ولا توجد مدارس ولا بيوت يدرسون فيها، ولا توجد راحة بال، ولا يوجد شيء. قصّة مُعقّدة. وهذا ينسحب أيضاً على مجمل العملية التعليمية، إذ لا توجد كتب مدرسية في غزّة الآن، إلى جانب النقص في الكادر التعليمي نتيجة استشهاد وإصابة مئات من المُعلّمات والمُعلّمين، فضلاً عن عدم وجود مدارس في الأساس، إذ وفق تقديرات لا يمكن التيقّن من دقّتها، أكثر من 80% من المدارس في القطاع خارج الخدمة، وهذا يشمل مكوّنات التعليم العام الثلاثة: الحكومي ووكالة الغوث (أونروا) والخاص. أمّا العشرون في المائة المُتبقّية فغير صالحة للعمل بصورة كاملة، وفي حاجة إلى تأهيل وترميم. عشرات المدارس دمّرت بالكامل، ولنتذكّر أنّ مدارس حكومية كثيرة في غزّة تعمل بنظام الفترتَين: الصباحية والمسائية، وعليه فإنّ تدمير مدرسة واحدة يعني تدمير مدرستَين.

التأثيرات النفسية للحرب على غزّة سيكون لها تداعيات كبيرة في المستقبل، من شأنها أن تُعقّد مُهمّة استكمال العملية التعليمية

إننا مطالبون بالتفكير بصوت مرتفع بشأن مستقبل النظام التعليمي في غزّة في حال استمرّت الحرب، ودخلت عامها الثاني (هل هناك من يقول لا سمح الله!). نعم، نحن في حاجة وضع خطط تجعل استمرار العملية التعليمية أمراً مُحتّماً رغم الظروف كلّها. علينا، نحن الفلسطينيين الذين نجونا من مصائب كثيرة، وحافظنا على نظامنا التعليمي، أن نجد الطرائق التي تجعل استمرار العملية التعليمية أمراً ممكناً، حتّى لو عدنا إلى التعليم الشعبي في الخيام المُؤقّتة. ولا أقول هنا إنّ علينا أن ندجّن نظامنا التعليمي ونكيّفه حتّى يتعايش مع الوضع المُؤقّت، ولكن ما اقترحه وجوب التفكير في كيفية تفادي خسارة عام آخر.
من المؤلم أنّ برامج الإغاثة والتدخّل، والمؤتمرات التي تُنظّم للتفكير في مستقبل غزّة، في أثناء الحرب أو بعدها، لا يُفكَّر خلالها في سبل تجنّب مزيد من الانهيارات والارتدادات في الجهاز التعليمي. تذكّروا أنّنا ما زلنا نتأثّر بارتدادات مرحلة كورونا والتعليم من بعد، وهنا يمكن لنا أن نستفيد من بعض الدروس، لكن تذكّروا أنّ التعليم عن بعد في حاجة إلى إنترنت (ضيف عزيز في غزّة) وإلى الكهرباء، هل من يتذكّر أنّ غزّة لا يوجد فيها كهرباء منذ اليوم الثاني للحرب؟