من أجلِ تشكيل صورة مستقبل العراق
على مدى العقدين الماضيين، ومنذ مفتتح القرن الحادي والعشرين، شهد العراق، إثر خروجه من تاريخ حروب وحصار مرعب، احتلالاً ضارياً وحرباً أهلية وانقساماً وتصاعداً للطائفية وأزمة ثقة عميقة بالدولة ومؤسساتها. يدّعي بعض العراقيين اليوم ممن لا هوية له، ويستخف بانتمائه الوطني، أن العراق مجرّد كيان مصطنع ولا وجود له في التاريخ، ولا بد من تقسيمه! صحيحٌ أن سكانه مزيج متنوّع عرقياً ودينياً للغاية القصوى وأنهم غير منسجمين أبداً، بحيث يتعّذر على بعضهم البقاء موحدين تحت علمٍ واحد، لكن هذا يناقض التجارب التاريخية الطويلة للبلاد والجاذبية القويّة والدائمة للهويّة العراقية. ومن المخجل التخلّي عن العراق الحضاري وعظمة أمجاده عبر التاريخ.
لم يشهد العراق أي تحسّن في الوضع الأمني في العراق إلا عند 2019، لكنه عانى ولم يزل، دولة ومجتمعاً، من خروق أمنية، وبطش قوى أوليغارية من المليشيات أو العصابات الإرهابية، وهذه كلّها لا يمكن الخلاص منها ما لم يتمّ القضاء عليها، إذ ستبقى التهديدات الداخليّة الكبيرة والتدّخلات الخارجية تنعكس على الحياة الداخليّة، متمثّلة في المليشيات المتنافسة التي تعززّها جهات خارجية فاعلة غير عراقية، فكلّ منها يسعى إلى تحقيق طموحاته الخاصة، ولها دور رئيسي في البلاد. ولكن المنافسات الإقليمية تعمل أيضاً على التنكيل بأمن العراق. ويبدو السبب واضحاً، وهو يتمثّل بالانقسامات عند العراقيين أنفسهم، وصراعهم من أجل السلطة والاستحواذ على الموارد، في ظل افتقاد العدالة والقانون، واجتياح الفساد في كلّ مرافق الحياة في العراق.
بدا واضحاً أنّ الشيعة ليسوا وحدهم من فشلوا في حكم العراق، بل إنّ السنة أيضاً افتقدوا بوصلتهم
تعدّ الولايات المتحدة أقوى لاعب خارجي في المنطقة التي تمثّل أهم مجال حيوي في العالم، وعلى الرغم من خفض الجيش الأميركي مستويات قواته في العراق، إلا أن الولايات المتحدّة ما تزال تهيمن على مقاليد العراق، وترتهن موارده النفطية إلى أجل لا يعلمه أحد. وأيضاً، إلى متى ستبقى علاقات العراق مع الدول العربية متوتّرة ومعقّدة بحكم النفوذ الإيراني الذي يحول دون تعميق الروابط مع العُمق العربي. وأرى أنّ محاولات جرت على استحياء، بحكم اهتزاز الثقة، وأنّ السياسة العراقية اليوم لا تضمن أبداً عدم توغّل الإيرانيين في أعماقه.
وسيبقى العراق يعاني من هذه "المعادلة" الصعبة، مع هزال طواقمه السياسية وهيمنة المحاصصات الطائفية بكلّ فجاجةٍ على نظام الحكم، ولا أدري كيف يستقيم ذلك وممارسة اللعبة الديمقراطية بأسوأ تجاربها، إذ بدا أن مسافة كونية تفصل العراق عن كيفيّة الأداء الديمقراطي إن بقيَ محكوماً بهذه المعادلة التعيسة! وبدا واضحاً أنّ الشيعة ليسوا وحدهم من فشلوا في حكم العراق، بل إنّ السنة أيضاً افتقدوا بوصلتهم، وغدوا مهزلة بنماذج مضحكة من الطرفين. وفي كلّ عام، تخرج علينا مجموعة لتعقد مؤتمرها وتطلق وعودها، وتشكّل لها حكومة منفى! ثم يخيب مسعاها كونها غير مخلصة وطنياً، وأنها تسعى من أجل السلطة والأخذ بثاراتها وزعزعة الاستقرار.
تدهورت الحياة الاقتصادية للعراق بسرعة منذ زمن، فالدولة تشرف على اقتصاد الجيب الريعي، المعتمد على تصدير الطاقة والقطاع العام المتضّخم
السؤال: هل العراق قادم على حربٍ أهليةٍ، كونه قد فشل في أن يبني نموذجاً ديمقراطياً؟ ولكن الديمقراطية لا تستقيم أبداً مع أيّة مؤدلجات دينية طائفية تمييزية، كالتي يعتمد عليها أيّ نظام ديني سياسي. وهذا ما يصبغ العمليّة السياسيّة الحالية، وليس في استطاعة العراق الخروج منها بسبب الوصاية الإيرانية وبقائه تحت عباءتها وهي تفرض إرادتها. وعليه، هل باستطاعة العراق أن يحرّر نفسه منها؟ هل في استطاعة أيّة حكومة عراقية قويّة أن تقطع دابر إيران وتعيد العلاقات إلى طبيعتها الدبلوماسية؟ فلا تغيير يحدث إن لم يتحقق هذا الشرط وترافقه محاكمة كلّ من تجنّى على العراق باسم إيران. هذا يصعب إجراؤه حقاً، لأن المشروع الإيراني قد توغّل كثيراً في العراق منذ عام 2003، بدءاً بالجماعات الإرهابية المتنوّعة التي انطلقت نحو الأراضي العراقية (نفّذها النظام السوري بكلّ دقّة)، وانتقالاً إلى المليشيات الموالية لإيران.
تدهورت الحياة الاقتصادية للعراق بسرعة منذ زمن، فالدولة تشرف على اقتصاد الجيب الريعي، المعتمد على تصدير الطاقة والقطاع العام المتضّخم. هبوط أسعار النفط، وانعدام الأمن وتفشّي الفساد وضعف قدرة الدولة تقوّض قدرة القطاع الخاص على إيجاد فرص العمل مع تآكل ماليات الدولة. أطلقت هذه الديناميكية، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، واحدةً من أهم الانتفاضات الاجتماعية والسياسية في البلاد. مقاومة الطبقة الحاكمة والتغيير الحقيقي، والافتقار لاستجابة الحكومة وقمع التظاهرات بكلّ قسوة، وبقاء الثورة في مناطق من دون انتشارها إلى كلّ أنحاء العراق، كلّها عوامل أدّت، ببساطة، إلى تآكل ثقة العراقيين في نظامهم السياسي. لكن لا بدّ من اندماج بعض الجماعات المحتجة في أحزاب وكتل سياسية معلمنة، وعابرة للطوائف، حتى يمكنها إحداث تغيير حقيقي وأساسي في النظام السياسي العراقي. وتشكيل كيان وطني سياسي جديد، يثير الانتباه ليقف العالم معه.
التحدّيات الحاسمة التي يواجهها العراق، بما في ذلك الانقسامات الداخلية طويلة الأمد، لا يمكن معالجتها بعقلية انقسامية أو بروح ماضوية
يقف العراق عند مفترق طرق، ولديه فرصة لترك عقود من الحرب والاضطرابات وراءه. لكن يجب على الجيل الجديد أن يدرك أولاً ماضيه الحقيقي، من دون أيّة تعاطفات سياسية مع ماضي القرن العشرين. من شأن التقييم الصادق للجرائم التي حلت بالعراق أن يعزّز جهود المصالحة الوطنية، ويشيع التعايش بعيداً عن ثارات الماضي. على المجتمع الدولي دعم التغيير نحو المستقبل بخلاص البلاد من أيّة أجندة تصارع إحداها الأخرى.
التحدّيات الحاسمة التي يواجهها العراق، بما في ذلك الانقسامات الداخلية طويلة الأمد، لا يمكن معالجتها بعقلية انقسامية أو بروح ماضوية أو بنزعةٍ طائفيةٍ أو بتعصّباتٍ مذهبيةٍ أو بانحيازاتٍ قوميةٍ وعرقية، وأية علاجات صارمة في إرساء برامج أو مناهج تعليم أو إقرار قوانين صارمة، لا يمكن أن تستقيم أبداً بشكل جماعي، إن استخدمت الديمقراطية العراقية بصيغها الحالية. وعليه، ينبغي تشكيل لجان عليا، وبمعونة مستشاري دول أخرى، مراقبين أعمالها في مختلف حقول المجتمع ومؤسسّات الدولة، تتماشى بالضرورة مع التقاليد العراقية. وبعيداً عن تدّخلات أيّة أحزاب ومسؤولين ونواب ورجال دين .. إلخ، وبعيداً عن أيّة ضغوط خارجية تحت مسميّات ومبررّات شتّى، وسيتم لا محالة إحداث تغيير إيجابي في العراق، خصوصاً إذا تمّ الاضطلاع بها كجزءٍ من جهدٍ أوسع للمصالحة الوطنية يتمّ إجراؤه على جميع مستويات المجتمع.
ويفضّل العراقيون من الشباب الجدد الطموحات الوطنية بشكل متزايد على أيّة انتماءات طوائفية. سئموا العنف السياسي والركود الاقتصادي وغياب المصالحة الاجتماعية، فالمطلوب من الدولة العراقية تطوير ذلك من خلال المجتمع المدني. وهنا تنفع الثورة الثقافية الشاملة، من خلال المنتديات والجمعيات لبناء وعي جديد، وأن تعمل على حماية المجتمع وتلبية احتياجاته والقضاء على الفساد قضاء مبرماً باتباع أحكام صارمة وتطبيق القانون على الجميع.