ملامح برلمان معطوب في تونس

10 فبراير 2023
+ الخط -

البرلمان في البلدان الديمقراطية التقدّمية مؤسّسة مدنية منتخبَة، تساهم، بشكل فاعل، في رسْم السياسات العامّة للدولة، وهو فضاءٌ للتعبير، والتغيير، ونقد النظام الحاكم. ويتولى أدوارا مهمّة في مقدّمتها سنّ التشريعات، ومراقبة أداء الحكومة ورئيس الجمهورية، وتأمين التوازن بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإبرام المعاهدات والاتفاقيات الدولية، والدفاع عن حقوق المواطنين، والعمل على تحقيق تطلّعاتهم المشروعة إلى مزيدٍ من الكرامة والعدالة والرفاه. وتتحدّد قوّة المجلس النيابي في الأنظمة السياسية الحديثة بحدود شرعيته القانونية، ومدى تمثيله الإرادة الشعبية وما يتمتّع به من صلاحيات دستورية.

وظلّ البرلمان في تونس منذ قيام النظام الجمهوري (1956)، وعلى امتداد عهدي الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وخلفه الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي جهازا صوريا، تابعا للقصر الرئاسي ومؤيّدا للحكومة، لا رقيبا عليها، وغلب عليه لون الحزب الحاكم، وشابت الانتخابات التشريعية شبهاتُ تزويرٍ واسعة. أمّا بعد الثورة (2011)، فانتخب طيفٌ معتبرٌ من التونسيين ممثليهم في البرلمان وفق نظام الاقتراع على القوائم الحزبية بطريقة شفّافة، نزيهة بشهادة منظّمات رقابية موثوقة، محلّية ودولية. وأنتج الانتخاب الحرّ مجلسا نيابيا تعدّديا في دورات انتخابية متتالية (2019، 2014، 2011)، وتمتّع البرلمان بصلاحياتٍ واسعة، مكّنته من القيام بأدوار حيوية، في مقدّمتها مساءلة الحكومات المتعاقبة، ومراقبة أداء مؤسسة رئاسة الجمهورية، وصياغة دستور 2014، وإشراك مكوّنات المجتمع المدني في بلورة قوانين أساسية، وتأمين توازن نسبي بين السلطات الثلاث، وإبلاغ مطالب المواطنين إلى أصحاب القرار.

لكنّ ما اعترى برلمان 2019 من تجاذب سياسي حادّ تزامن مع عجز حكومي في إدارة أزمة كوفيد كان فرصة اغتنمها رئيس الجمهورية قيس سعيّد لإعلان جملةٍ من التدابير الاستثنائية لإدارة البلاد (25/07/2021)، تضمّنت تجميد البرلمان المنتخَب في مقام أوّل، وغلقه في مقام ثان بطريقة غير دستورية. وظلّت تونس، نتيجة ذلك القرار الأحادي غير المسبوق بلا برلمان، ورهينة المراسيم الرئاسية التي لا تقبل النقض عاما ونصف العام. وفي الأثناء، رسم قيس سعيّد خريطة طريق لإدارة البلاد في مرحلة الاستثناء، ختَمها بتنظيم انتخابات تشريعية على الأفراد في دورتين، باحت بنتائجها أخيرا (29/01/2023)، ولم تتجاوز نسبة المشاركة فيها حدود 11.4% من مجموع من يحقّ لهم الانتخاب. وأنتجت مجلسا نيابيا معطوبا، يعاني من عدّة اختلالات في مستوى شرعيته القانونية، ومشروعيته الشعبية، وكذا في مستوى تركيبته وصلاحياته.

البرلمان الجديد المنتظر أن يُباشر أعماله مطلع الشهر المقبل (مارس/ آذار) هو برلمان الرئيس بامتياز، ويندرج ضمن سياسة التأسيس للذات عبْر تقويض الآخر. ذلك أنّه نتاج إزاحة رئيس الجمهورية البرلمان السابق من المشهد السياسي بطريقة مستعجلة وغير دستورية باعتبار أنّ الفصل 80 من دستور 2014 ينصّ على أن يظلّ البرلمان في حالة انعقاد دائم زمن حكم الاستثناء. ولكنّ سعيّد تجاوز منطوق النص الدستوري، وعمد إلى إغلاق المجلس النيابي المنتخَب ليتخلّص من رقابته عليه، وليستوليَ على صلاحياته التشريعية، ويحكُم البلاد بالمراسيم. كما أنّ البرلمان الجديد وليد دستور جديد وضعه الرئيس نفسه، واستفتى الناس عليه، ولم يحظ بتأييد سوى 27% من التونسيين. وعدّل سعيّد القانون الانتخابي الذي انتظمت بمقتضاه الانتخابات التشريعية على هواه، وجعل الاقتراع على الأفراد بديلا عن الاقتراع على القوائم الحزبية، ووضع شرْط التزكيات، ومنع المترشّح من الحصول على تمويل عمومي أو حزبي، وأقرّ سحب الوكالة من النائب، ولم يستشر في تلك التغييرات الجوهرية مكوّنات المجتمع المدني والهياكل التمثيلية الوسيطة بين المنظومة الحاكمة والمواطنين. بل احتكم إلى رأيه الشخصي. يضاف إلى ذلك أنّ رئيس الجمهورية شكّل هيئة تنظيم الانتخابات على طريقته. وبناء عليه، ليس البرلمان الجديد نتاج شرعية جمْعية أو ثمْرة تشاور مدني وجمعوي واسع. بل هو نتاج الخيارات الأحادية لرئيس الجمهورية، وهو النواة المؤسّسية، الصورية، البارزة لمشروعه السياسي الشمولي.

ليس البرلمان الجديد سلطة، بل مجرّد وظيفة بحسب دستور 2022 الذي وضعه قيس سعيّد، وصلاحياته محدودة

في مستوى المشروعية الشعبية، يفتقر البرلمان الجديد إلى حاضنة اجتماعية واسعة. فرغم قول قيس سعيّد، معلّقا على المشاركة المواطنية الضئيلة في الدور الأوّل للانتخابات التشريعية (11.2%): "نسبة المشاركة لا تقاس فقط بالدور الأول بل بالدورتين، ومثل هذا الموقف القائم على التشكيك من جهات لا دأب لها إلا التشكيك … مردود على أصحابه بكل المقاييس، بل هو شبيه بالإعلان عن نتيجة مقابلة رياضية عند انتهاء شوطها الأول"، فإنّ نسبة المشاركة في الدور الثاني لم تكن في مستوى آمال رئيس الجمهورية، ولم تتجاوز حدود 11.4%، وهي أضعف نسبة إقبال على صناديق الاقتراع في تاريخ الانتخابات البرلمانية التونسية، وتعدّ من بيْن النسب الدّنيا في العالم، فقد ظلّت مراكز الاقتراع خلال الدورين، الأوّل والثاني، مُقفرة، أو تكاد رغم ما بذلته هيئة الانتخابات من جهود في مستوى إعلام الناخبين بيوم الانتخاب، وتوفير الإمكانات المادية والبشرية واللوجيستية لمكاتب الاقتراع، وتنظيم حملات تعريف بالمترشحين، وتوجيه 120 مليون رسالة إلكترونية للمواطنين، لحثهم على المشاركة في الاستحقاق الانتخابي. لكن من دون جدوى! فقد بلغت نسبة المقاطعة زهاء 90٪، وهي رسالة اعتراض شعبية واضحة على سياسات الرئيس ومسار 25 يوليو( 2021) ومخرجاته، رسالة تحمل طيّها عدم اعتراف ضمنيا بمشروعية البرلمان الجديد الذي يبدو بعيدا عن تمثيل عموم الإرادة الشعبية. ذلك أنّه يمثّل عمليا عُشُر الناخبين، ولا يمثّل بحال الأغلبية الصامتة التي قاطعت الحدث الانتخابي على سبيل الاحتجاج أو العزوف واللامبالاة. ويكشف ذلك عن فجوةٍ عميقةٍ بين النظام المؤسّسي الرسمي بعد 25 يوليو/ تموز 2021 وجمهور المحكومين. وبناء عليه، البرلمان الوليد بلا عمق شعبي، وبلا حزام مدني واسع، وهو، في نهاية المطاف، تمثيل لتيّار سياسي أقلّوي داخل الشارع التونسي.

ويتبيّن الناظر في تركيبة البرلمان الجديد، من الناحية السياسية، ضعْف حضور المتحزّبين فيه الذين لم يحوزوا سوى 8.44٪ من المقاعد، موزّعة بين حركة الشعب وحزب صوت الجمهورية. فيما ينتمي نوّاب آخرون إلى ائتلافات مؤيّدة لرئيس الجمهورية مثل ائتلاف "لينتصر الشعب"، و"الشعب يؤسّس"، و"حراك 25 يوليو". أمّا البقية، فشتات أفراد مستقلّين ينتمون إلى مرجعياتٍ أيديولوجيةٍ وفكريةٍ متباينة. واللافت أنّ جلّ النوّاب من مؤيّدي الرئيس قيس سعيّد، ما يعيد إلى الذهن صورة البرلمان النمطي، ذي اللون الواحد الذي عرفته تونس عقودا قبل الثورة. ومعلوم أنّ عدم وجود كتل حزبية معارضة وازنة داخل المجلس النيابي سيجعل من الصعب تشكيل قوّة ضغط برلمانية في مواجهة السلطة التنفيذية. ومن الناحية الجندرية، البرلمان الجديد ذكوري بامتياز، فعدد حضور النساء لم يتجاوز حدود 25 امرأة من مجموع 154 نائبا، أي بنسبة تمثيلية تقدّر ب16.2٪ فحسب، على خلاف برلمان 2019 الذي بلغت فيه نسبة حضور النساء 23٪، وبرلمان 2014 الذي وصلت فيه تمثيلية المرأة إلى حدود 36٪. وذلك راجعٌ إلى طبيعة القانون الانتخابي الجديد الذي أهدر شرْط التناصف بين الرجال والنساء في الترشيحات للمجلس النيابي، وطالب كلّ مترشّح أو مترشّحة بالحصول على400 تزكية لقبول ترشّحه/ها، وهو مطلبٌ صعب على نساءٍ كثيرات تحقيقه. ومعلومٌ أنّ تهميش النساء في تشكيل تركيبة البرلمان هو نكوصٌ عن المكتسبات الحقوقية للمرأة التونسية بعد الثورة.

ليست الحكومة في حاجة للحصول على ثقة البرلمان، لتُباشر أعمالها فهي ليست مسؤولة أمامه، بل هي "مسؤولة عن تصرّفها أمام الرئيس"

وفي مستوى الصلاحيات، ليس البرلمان الجديد سلطة، بل مجرّد وظيفة بحسب دستور 2022 الذي وضعه قيس سعيّد، وصلاحياته محدودة، وسيتمّ إحداث مجلس وطني للجهات والأقاليم ليُنازعه اختصاصاته الرقابية والتمثيلية. ولا يمكن إقالة الحكومة أو حجب الثقة عنها عبر التصويت إلا بتأييد ثلثي النواب في المجلسين (الفصل 115)، وهو شرطٌ يصعُب تحقيقه. ما يجعل الحكومة عمليّا في حلّ من الرقابة البرلمانية. ويجوز "لرئيس الجمهورية أن يحلّ المجلسين أو أحدهما، ويدعو إلى تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها" (الفصل 115)، وله أولوية تقديم تشاريع، وإصدار مراسيم، وردّ قوانين صدّق عليها المجلس النيابي. وبذلك، ينافس الرئيس البرلمان على اختصاصاته التشريعية ويتحكّم في مآلها. كما أنّ حصانة النوّاب مقيّدة (الفصل 66)، و"يمكن سحب الوكالة منهم" (الفصل 61).

يجعل ذلك كله البرلمان القادم ضعيفا، واقعا تحت سلطة رئيس الدولة، مجرّدا من معظم الصلاحيات التي نصّ عليها دستور الثورة (2014)، فحاكم قرطاج، بموجب دستور2022، محور منظومة الحكم، وهو فوق المساءلة، والجميع مسؤولٌ أمامه، فهو مَن يضبط السياسة العامّة للدولة (الفصل 100)، وهو مَن يعيّن رئيس الحكومة وبقية أعضائها (باقتراح من الأخير) وفي مقدوره إنهاء مهامّهم (الفصلين011 - 102)، ومن ثمّة، يتم تعيين الحكومة في غير اعتبار لنتائج الانتخابات التشريعية، وهو من اختصاص رئيس الجمهورية، لا من مشمولات الحزب الأغلبي، كما كان الحال في دستور2014. وليست الحكومة في حاجة للحصول على ثقة البرلمان، لتُباشر أعمالها فهي ليست مسؤولة أمامه، بل هي "مسؤولة عن تصرّفها أمام الرئيس" (الفصل 112). ومن ثمّة، نحن إزاء برلمانٍ منزوع الصلاحيات، هو بمثابة غرفة تشريع ملحقة بقصر رئاسة الجمهورية.

ختاما، ينتقل التونسيون، بظهور البرلمان الصوري الجديد من عشرية الديمقراطية، التمثيلية، التعدّدية، الفاعلة في رسم السياسات العامّة إلى حقبة الحكم الرئاسوي/ الأحادي، المهيمن على كلّ السلطات. وفي ذلك ضمور للحالة الديمقراطية وعودة إلى الوراء إحياءً لزمن الدولة الشمولية لا محالة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.