09 نوفمبر 2024
مقاطع من بانوراما ليبية
ليبيا دولة نفطية غنية، ولولا نكبتها بمعمّر القذافي أربعين عاما، لتنعّم شعبها برخاءٍ طيب، وببنياتٍ تحتيةٍ متطوّرة، ولمَا انعطفت بعد الخلاص من هذا الرجل إلى الخراب السياسي الراهن فيها، ولمَا صارت المتاهات التي تدوّخ من يحاول تشريح المشهد التعيس والعويص فيها. ومن مخلّفات القذافي أنه ترك مرافق صحيّةً عموميةً رديئة الخدمة، ولمّا جرى خلعُه من السلطة ثم غادر الدنيا، بسرعةٍ قياسية، دلّ الذين ورثوه، ثوّارٌ وغير ثوار وبيْن بيْن وقوى ثورة مضادّة وشتاتٌ مبعثرٌ من منتفعين من أيّ كان، دلّوا على أن أمرا كهذا، أي صحّة المواطن الليبي، ليس من مشاغلهم، وإنما هي السلطة ولا شيء غيرها، بالاحتراب والاختصام والاستقواء بالخارج، وبالمنطق الحاراتي والجهوي. ومن مفارقاتٍ عجيبةٍ استجدّت، في كل هذه الغضون، أن العنوانيْن السياسيين للخلاف الذي سدّ منافذ الاتفاق على بناء الهياكل العليا الحاكمة للدولة كانا مجلس النواب المنتخب صيف 2014 والمؤتمر الوطني العام المنتخب (أو المشكّل ربما) صيف 2012، غير أن التنازع صار تاليا بين مليشيا عسكرية يقودها ضابط متمرّد، أسير سابق، خُلع عليه لقب المشير، اسمه خليفة حفتر، وحكومة الوفاق التي ترسّمت بموجب الاتفاق السياسي الموقّع في الصخيرات المغربية في ديسمبر/ كانون الأول 2015.
تلك مرحلةٌ أولى أعقبت نجاح الثورة الليبية في التخلّص من القذافي (ونظامه؟)، ولم يكن هذا الخلاص هيّنا، بل بالسلاح والحرب والاقتتال، ثم بقتل القذافي في واقعةٍ شنيعة، أشارت إلى أن دما كثيرا سيسيل في البلاد. أما المرحلة الثانية، فهي التي نُعاينها، منذ نشطت عواصم الثورات المضادّة العربية في تخليق قوىً وجماعاتٍ محليةٍ في غير بلد، بعد انقلاب 3 يوليو في القاهرة صيف 2013، لمّا وجدت هذه في شخص حفتر قفّازا أنسب للرهان عليه، فتهيأت له روافع محليةٌ، سياسيةٌ وجهويةٌ، واختار الحرب لإيقاف مسارٍ كان في الوسع أن يمضي إلى بناء دعائم دولةٍ جديدةٍ في ليبيا، لو سوعد الليبيون حقا في هذا، ولم يتم تشجيع بعضهم على بعض، وتقوية هؤلاء على أولئك، وتسليح أولئك وهؤلاء، وتلبيس الجميع كلهم الأردية الأيديولوجية والسياسية والشعارات اللازمة. صار الذي صار، وبتْنا أمام مليشياتٍ بلا عدد، في ضفتي الاقتتال الذي ظل جنوب ليبيا وشرقها يميل كثيرا لصالح حفتر، ويميل غربها وبعض جنوبها مرّات لقوات حكومة الوفاق في طرابلس. وفي الأثناء، كانت الثرثرات مضجرة، في عواصم غير قليلة، عن وجوب إنهاء هذا الحال، واعتماد أفقٍ سياسي، غير أن ذلك الدجل الدولي الممل يسّر الذهاب إلى الطور الراهن، والذي افتتحه المتمرّد حفتر قبل عام بالضبط.
أطلق المذكور يوم 4 إبريل/ نيسان 2019 عملية الفتح المبين للاستيلاء على العاصمة طرابلس في غضون 48 ساعة، في أثناء وجود أمين عام الأمم المتحدة، غويتريس، في ليبيا. أياما، بعد إعلان رئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، المستقيل أخيرا، غسان سلامة، عن ترتيباته لعقد مؤتمر ليبي وطني جامع في غدامس، ينتهي إلى توافقٍ على إجراء انتخاباتٍ عامةٍ، لعلها تأخذ البلاد إلى منعرجٍ آخر، إلى مجرىً سياسيٍّ سلمي، يتدعم بدولةٍ تحتاج داعمين يسعفونها، ويساعدون على تقويتها، وعلى بناء أهلها مؤسساتها العسكرية والمدنية. سرعان ما انكشف أن أرطال الطوباوية في تصوّرٍ كهذا غزيرة، ذلك أن طائرات الإمارات الحربية، وقذائف عبد الفتاح السيسي، وأسلحة فرنسا ماكرون، ومرتزقة روس وإسناد موسكو بوتين، وأموال من محمد بن سلمان، كل هؤلاء وغيرهم، معطوفين على انكفاء أميركي، وقلة اكتراثٍ من إدارة دونالد ترامب (وإنْ هاتفَ حفتر مرة) ساهمت في رسم المشهد الأصعب في ليبيا منذ ثورة 2011، المشهد الذي تصنعه غارات حفتر بالطائرات المزوّد بها من أبوظبي، وتنجز فظائع بين المدنيين غير قليلة، مثل التي راح فيها نحو 30 مجنّدا في الكلية العسكرية في طرابلس في يناير/ كانون الثاني الماضي، بعد نجاحاتٍ ميدانيةٍ لمليشيات حفتر، ومعهم مرتزقته الروس والسودانيون وغيرهم، في سرت وغيرها، ثم هزائم تتالت في غريان وغيرها. وفي الغضون، يتعاظم الدجل الدولي إياه (الفرنسي والمصري خصوصا)، كما في مؤتمر برلين الفلكلوري، ثم لا يرعوي حفتر، وقد فشلت ساعاتُه الصفر كلها، ثم تتدخل تركيا أردوغان مساندة الحكومة في طرابلس، وتستمرّ نوبات الكرّ والفرّ، حتى إذا استجدّت جائحة كورونا الماثلة، يشكل حفتر لجنة عليا لمكافحة الوباء، وتشكّل الحكومة لجنتها، أما الحرب فدوّارة، وهكذا دواليك ..
أطلق المذكور يوم 4 إبريل/ نيسان 2019 عملية الفتح المبين للاستيلاء على العاصمة طرابلس في غضون 48 ساعة، في أثناء وجود أمين عام الأمم المتحدة، غويتريس، في ليبيا. أياما، بعد إعلان رئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، المستقيل أخيرا، غسان سلامة، عن ترتيباته لعقد مؤتمر ليبي وطني جامع في غدامس، ينتهي إلى توافقٍ على إجراء انتخاباتٍ عامةٍ، لعلها تأخذ البلاد إلى منعرجٍ آخر، إلى مجرىً سياسيٍّ سلمي، يتدعم بدولةٍ تحتاج داعمين يسعفونها، ويساعدون على تقويتها، وعلى بناء أهلها مؤسساتها العسكرية والمدنية. سرعان ما انكشف أن أرطال الطوباوية في تصوّرٍ كهذا غزيرة، ذلك أن طائرات الإمارات الحربية، وقذائف عبد الفتاح السيسي، وأسلحة فرنسا ماكرون، ومرتزقة روس وإسناد موسكو بوتين، وأموال من محمد بن سلمان، كل هؤلاء وغيرهم، معطوفين على انكفاء أميركي، وقلة اكتراثٍ من إدارة دونالد ترامب (وإنْ هاتفَ حفتر مرة) ساهمت في رسم المشهد الأصعب في ليبيا منذ ثورة 2011، المشهد الذي تصنعه غارات حفتر بالطائرات المزوّد بها من أبوظبي، وتنجز فظائع بين المدنيين غير قليلة، مثل التي راح فيها نحو 30 مجنّدا في الكلية العسكرية في طرابلس في يناير/ كانون الثاني الماضي، بعد نجاحاتٍ ميدانيةٍ لمليشيات حفتر، ومعهم مرتزقته الروس والسودانيون وغيرهم، في سرت وغيرها، ثم هزائم تتالت في غريان وغيرها. وفي الغضون، يتعاظم الدجل الدولي إياه (الفرنسي والمصري خصوصا)، كما في مؤتمر برلين الفلكلوري، ثم لا يرعوي حفتر، وقد فشلت ساعاتُه الصفر كلها، ثم تتدخل تركيا أردوغان مساندة الحكومة في طرابلس، وتستمرّ نوبات الكرّ والفرّ، حتى إذا استجدّت جائحة كورونا الماثلة، يشكل حفتر لجنة عليا لمكافحة الوباء، وتشكّل الحكومة لجنتها، أما الحرب فدوّارة، وهكذا دواليك ..