مفاضلة مبكّرة بين رئيسيْن معطوبيْن
سواء شاهد المرء مباراة كرة قدم بين فريقين من بلدين لا صلة له بهما، أو صادف على الشاشة جولة مصارعة حرّة بين ملاكميْن من الوزن الثقيل لا يعرف مسبقاً أي شيء عنهما، يجد هذا المرء نفسه منحازاً بصورة تلقائية لأحد الفريقين، ومتعاطفاً مع هذه الدبّابة البشرية أو تلك بلا سبب مفهوم، وقد يعقد مفاضلة، من دون أساس موضوعي، بين الغريميْن، فما بالك إذا كنّا بصدد مفاضلةٍ لها ما يبرّرها، بين مرشّحيْن رئاسيين في أهم دولة وأوسعها نفوذاً في العالم؟
ذلك أن الانتخابات في الدولة العظمى الوحيدة ليست حدثاً محلياً بحتاً، أو شأناً أميركياً خالصاً، الأمر الذي لا مفرّ معه من عقد المقارنات وإجراء التفضيلات بين المتسابقين، وربما حبس الأنفاس واحتدام حدّة النقاشات والتوقّعات والتمنّيات، المشوبة بالترقّب بين العواصم المعنية، بل وبين أناسٍ لا صوت لهم، وغير مؤثرين في مجرى هذا السباق، خصوصاً بعد أن يتوالى ظهور نتائج استطلاعات الرأي المتباينة، ويتضاءل احتمال وقوع المفاجآت المربكة.
قد يكون من المبكّر الدخول على خط الانتخابات الأميركية في هذا الوقت المثقل بأحداثٍ جسام، ولا سيما في العالم العربي المثخن بجراح حرب الإبادة في غزّة، وربما أن المفاضلة بحد ذاتها عبثية، ولا تستحقّ التناول، لولا أنها مفاضلةُ بين رئيسيْن مجرّبيْن، لكلً منهما رؤية ذاتية وسياسات تتقاطع مع سيرورة الحرب على غزّة، وتخاطبنا نحن على نحو مباشر، بعدما حُسم التنافس بين رئيسٍ سابقٍ كاد أن يُنهي القضية الفلسطينية، من خلال "صفقة القرن"، ورئيس حالي يودّ القضاء على الشعب الفلسطيني نفسه، عبر دعمه اللامحدود لمذبحة العصر.
على هذه الخلفية، تبدو المفاضلة مستحقّة بين دونالد ترامب، الذي كان مثل الخاتم في إصبع بنيامين نتنياهو، وجو بايدن الذي يبدو شريكاً كاملاً، بل قائداً فعلياً لحرب الإبادة المتواصلة في غزّة، الأمر الذي يسوّغ عقد هذه المفاضلة، بين من ابتدع مفهوم "السلام الإبراهيمي" لتجاوز استحقاقات قضية العرب المركزية، ومن يهرول بأساطيله، ويصف نفسه صهيونياً أكثر من هرتزل، ويملأ يدي نتنياهو بالقنابل والصواريخ الذكية، لقتل مزيد من أطفال غزّة، ثم يزعم أنه "أقنع" الرئيس المكسيكي بفتح معبر رفح (قال أقنعه).
ومع أن المفاضلة بين بايدن وترامب مشروعة بالنسبة للدول الأوروبية، التي هدّد الرجل البرتقالي بسحب الغطاء النووي عنها، بل وتحريض فلاديمير بوتين على غزوها إن لم تُذعن لمطالبه، ومفهومة بالنسبة للصين وروسيا وأوكرانيا أيضاً، ناهيك عن الفرس والكرد والترك، إلا أنها تظلّ مفاضلة عويصة في بلادنا العربية، بين من يحنّ إلى عهدٍ غريب الأطوار، ذاك الرئيس الهائج المائج، ليس حبّاً به بالضرورة، وإنما رغبة بالتشفّي والانتقام من خليفته بايدن، الذي أساء لعواصم بعينها، وأهان قادة عرباً، حتى قبل أن يدخل عتبة البيت الأبيض.
إذن، ليس في وسعنا من نراهن عليه والحالة هذه، وبالتالي ليس في الخاطر سوى التعويل على وقوع متغيّر مفاجئ يقلب الطاولة على كلا المتسابقين المعطوبين، مثل منع القضاء الأميركي، في ربع الساعة الأخيرة، المرشّح دونالد ترامب (الذي يجر وراءه 91 قضية جنائية وعدّة فضائح أخلاقية) من الاشتراك في السباق الانتخابي، أو توصّل الحزب الديمقراطي إلى استنتاج مفاده استحالة فوز جو بايدن، المنهك عقلياً وصحياً، بهذه المعركة الانتخابية الساخنة، وربما خسارة أغلبية مقاعد الكونغرس بمجلسيْه، خصوصاً مع تصاعد ما تشبه الانتفاضة داخل الحزب الديمقراطي ضد السيد الرئيس، وحدوث ما يشي بالتحوّل المتعاظم لدى الرأي العام الأميركي، ولا سيّما لدى شبابٍ يسألون بايدن بصوت مسموع: كم طفلاً قتلت اليوم في غزّة؟
وأحسب أنه إذا وقعت المفاجأة هذه، وهي غير مستبعدة تماماً، وخسر بايدن معركته، ليس جرّاء عدم الأهلية العقلية مثلاً، وإنما على خلفية تأييده الأعمى للمقتلة في غزّة، فتلك، لعمرك يا أخا العرب، انعطافة كبرى وسابقة غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات الأميركية، التي كانت الخسارة فيها، دائماً، من نصيب كل مرشّح يبدي انتقاداً ما للدولة العبرية، وها هي اليوم قد تنعكس الآية، فبدل أن يكون تأييد إسرائيل رافعة انتخابية، صار يؤدّي إلى هزيمة، وأحسب أيضاً أن هذه واقعة مفصلية من وقائع "طوفان الأقصى" غير المحسوبة، وواحدة من نتائجه الباهرة، تأتي لتقطع الشكّ باليقين، وتبرهن على أن ما كان محض خيال صار حقيقة ممكنة، ونعني بذلك حدوث نقطة التحوّل في المطرح المرغوب فيه، داخل الساحة الأكثر أهمية.