مغرب يسار اليوم

28 يوليو 2024

(محمد القاسمي)

+ الخط -

لن تجد في مغرب اليوم من يستطيع الكلام بصوت مسموع، خافتاً أو جهيراً، عن الأوضاع العامّة أو الخاصّة التي تحياها أطياف اليسار في المغرب، إلا ثلاثة أشخاص، يتحتّم البدء، من باب الترتيب البروتوكولي الذي يمكن أن يفترضه السامع خارج المجالس الخاصّة، بالناقد اللامنتمي، الذي لم يتخلَّ في ظروف وحدته أو أزمته عن النضال مطلقاً، ولا عن المُعارَضة الممكنة للأوضاع القائمة أبداً، ولكنّه لا يجد في ما يراه صورةً، ولا في ما يسمعه صوتاً، وعندما يسترق النظر إلى الأوضاع الخصوصية التي تتستّر عليها تلك الأطياف، لا يظفر بأيّ شيء ذي بال، وإن ظفر به فإنّه يكون مقروناً بالإشاعة أو مَصُوغاً، إذا انجلى غباره، ببيان لا يُفْهَم منه إلّا القرار الذي أصدرته قيادة ما لفكّ صراع داخلي، أو لحسم موقف تمليه المركزية الديمقراطية. وخلاصة هذا الناقد اللامنتمي أنّ اليسار بعامّة لم يعد له وجود فعلي، لأنّه لا يُعبّر عن حضورٍ بالمرَّة، أو عن حضورٍ لا يعتبر ولا يعتد به. أمّا التشكيك في الأهلية، التي كانت في تكوينه الأصلي دافعاً نضالياً وأيديولوجياً، فقد غامت في التعامل، أو تعامل بعض فصائله بالخصوص، مع جميع السلطات السياسية التي توالت على البلد، ثم جعلت من البراغماتية (النفعية) السلوك الأكثر انتهازية لقطف المصالح الفئوية من موقع هامشي، يتدهور بفعل مرور الزمن بصورة تدريجية.

هناك نوع من التعالي والتعاطي البراغماتي مع التقتيل اليومي الذي يذهب ضحيته يومياً سكّان غزّة من الفلسطينيين العزّل

والشخص الثاني، هو المناضل المهزوم، والاسم لا يحمل في معناه أيَّ قدحٍ في الأهلية، ويجب ألّا يوحي بها، لأنّ هذا المناضل هو الشخص الوحيد الذي هزمه اليسار، وانهزم بسبب هزيمته، فانسحب من التنظيم، ومن المجال السياسي نفسه، كما اصطنع لنفسه مسافة ضرورية، قطعها، من ناحيةٍ مُتحسّراً على السيرورة التي قادت إلى الأزمة. ومن الناحية الأخرى مُتحسّراً على نفسه، وفي غالب الأحيان بنوع من الادّعاء أو بحكم الخلاصات التي وقف عليها واستخلصها من تجربته، بسبب التضحيات التي أوفى بها، أو تطلّبها النضال من أجل مصلحة الشعب، أو في سبيل المهام الثورية التي تطلّبها التنظيم وأمر بممارستها... إلخ. وخلاصة هذا المناضل المهزوم، أنّه أضاع حياته الشبابية في حين كان عليه أن يستغلّه ويجنيه من منافع دنيوية، لا تكون إلا بالعمل وفق المصلحة الشخصية، وأنّه الآن لا يرى إلّا الفرقة، والزعامة العمياء، والمركزيات التي تُزكّي السيطرة أو تمنع الاختلاف أو تعوق الوحدة الممكنة.
أما الشخص الثالث، فهو المناضل الطائر، الشاب الحالم، والناشط الحقوقي المُتحلّل من الأيديولوجيا التعبوية، المرتبط أكثر بالشبكات الاجتماعية التي تلهيه عن جميع المهام، كما تسعفه أيضاً في القيام بالدعوة إلى جميع المهام التي يُفكّر فيها، وكذا في إنجاز مُختلف المهام التي يُرشّح نفسه لها، علاقاته مفتوحة مع محيطه، ولكنّه يحمل في صدره غلّاً لمختلف السلطات التي تحدّ من فعله أو ممارسته، وعندما ينتقد دورها في المجتمع، أو يلاحظ بوعي نقديّ دورها، أكان قمعاً، أم مراقبة لصيقة، أم تضييقاً مُحرِجاً لا فكاك منه، أم فعلاً غير مُجدٍ في الملّة والاعتقاد، هذا إلى ما يمكن ملاحظته في مواقفها وتصريحاتها في مجال من المجالات التي تعنيه، فهو، بسبب ذلك كلّه مُجتمِعاً أو مُتفرِّقاً، يُصدر في حقّها أحكاماً قطعية نهائية، لأنّه لا يرى وجود عدالة عادلة، ولا صحّة صحيحة، ولا عملاً يمكن القيام به، ولا يرى إلا الخراب الذي يُخيّم على الأوضاع القائمة، ولا يحلم بالثورة لأنّها، في تقديره الشخصي، فشلت، ولا في الإصلاح لأنّه ميّت، ولا في اليسار نفسه، رغم التعاطف، لأنّه هامشي مأزوم. وعموماً، فهو يتميّز بالمواقف النرجسية، وبالمعارضة الشخصية أو الذاتية، وأفراده، نساءً ورجالاً، من أجيال مختلفة، ظهروا في موجة "الربيع العربي"، وكانوا في مظاهراته ناطقين بالغضب الشعبي، مبلورين للشعارات المطلقة، التي أرادت أن تهزم العدو الطبقي من طريق "فيسبوك".
هؤلاء الأشخاص ثَلَاثَتُهُم "شيوخ" في العقود الأخيرة من أعمارهم، يتفنّنون في إسداء النصح لمن هم أصغر منهم، مناضلين وغير مناضلين، وتوليد الحكمة، والقول الصادح بالتعالم والادعاءات المجّانية. وعندما يكتبون مقالات في السياسة أو يشاركون في نقاش عمومي للتعبير عن وجودهم في الحياة، والدفاع عن استمرارية ما قد تكون أيديولوجية أو سياسية نضالية، يعمدون إلى تأليف ورقات عمياء لغاتها فيها عَيّ، وطابع أفكارها التطرّف أو العدمية (هو المبرر الأكبر للظهور)، فضلاً عن الترفّع عن الواقع الجاري من حولهم، وإيلاء الأهمية القصوى لما يصدر عنهم، لأنّه بحكم التجربة والسنّ، كما يدّعون، هو الحقيقة المطلقة.
لا أحد من هؤلاء يتساءل عن أيّ يسار يتكلّم، ولكنّهم جميعاً يلاحظون، بانتباه يبدو حادّاً، متغيّرات السياسة العالمية، والحروب الكونية المُندلِعة في كلّ قارّة تقريباً، كما يرون من قرب كيف تطوّرت الاستراتيجيات السياسية في البلدان كلّها، والأوروبية منها على وجه الخصوص، فحملت اليمين التقليدي، وَصِنْوه المُتطرّف، على أكتاف محطّات الفشل المُتكرّر، لمختلف التجارب الدورية للاشتراكيات والشيوعيات، إلى مواقع السلطة الفعلية. ويلاحظون، بحسرة جريحة أكبر، كيف أمسى اليسار في العالم العربي، وفي صفوف المقاومة الفلسطينية، وفي الدول المغاربية نفسها، التي تجاورنا ونجاورها، وتعادينا ونعاديها، في كلّ شيء يتراجع أو ينهار، في مختلف المواقع، التي احتلها من قبل من طريق الكفاح المُسلّح، أو من طريق الانتقال السلمي، أو (في حالات نادرة) من طريق الديمقراطية... إلخ، فزادته الضربات القمعية، ومختلف أشكال الحصار تراجعاً وانهياراً. ولا حلول في الأفق، لأنّ الأيديولوجيا التي برّرت الثورة أو الانتقال من قبل، أصبحت الآن تُبرِّر الأمر الواقع.
غير أنّنا، وهذا هو الوضع المختلف، صرنا نلمس شيئاً من التململ الواقع في أحضان الأطياف اليسارية المختلفة. ويعود ذلك ربّما إلى الأثر القوي، الذي خلّفته عملية حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 في وعيهم الخاص بالأزمة الذاتية أساساً. ذلك أنّه منذ العملية الحربية المُقاوِمة المتقنة، تحوّلت فلسطين فأصبحت، عندهم، مصادفةً تاريخيةً غير مسبوقة، بعناصرها الرمزية والإشارية القوية، خصوصاً عندما بلغ انخراط "حماس" في مقاومة المحتلّ في غزّة ما بلغه من الأشهر والضحايا، والخسائر التي تكبّدها العدو، انبرى هؤلاء الأشخاص، بعد أن نسوا الأوضاع العامّة والخاصّة، التي عليها أطياف اليسار من أزمة وهامشية وفرقة، ينادون بالتحرير من النهر إلى البحر، ووجّهوا إلى مسؤولي السلطة الوطنية الفلسطينية أقوى الشتائم المُخجِلة، ولم يحسبوا إطلاقاً أنّ المقاومة اليسارية الفلسطينية لم تعد بعض كيان تحت سقفها تتستر. والأهم من هذا أنّهم أصبحوا في حاجة إلى مقاومة "حماس" لأنّهم أصبحوا في حاجة إليها، إمّا لملء الشوارع بمن يصدح فيها، وإمّا لاستخدامها في دعوة الشعب إلى نصرة القضية الفلسطينية، لا قضيةً وطنيةً، كما كانت عليه الحال في السابق، بل باعتبارها قضية إسقاط للتطبيع، وهذا هو المهمّ في المُعارَضة السياسية، يمكن تبرير مختلف أشكال النضال الأخرى في سبيل القضايا المختلفة التي يناضلون من أجلها.
هناك نوع من التعالي والتعاطي البراغماتي مع التقتيل اليومي الذي يذهب ضحيته يومياً سكّان غزّة من الفلسطينيين العزّل. وأصحابنا لا يتكلّمون على الضحايا، لأنّ المصطلح لئيم غربي وله خلفية مسيحيّة، بل عن الشهداء، لأنّه من الحقّ أن يكونوا موعودين بالجنّة، ولا يعارضون الأيديولوجيا الإسلاموية لأنّها، في الوقت الحالي، مناضلة صامدة، ولا سيما لأنّها تسهّل، من قرب، ما تستطيعه المقاومة فكرةً عن بعد، من تأليف بين العواطف والقلوب والأيديولوجيات.
وفي اتجاه آخر لا يمكن الحديث، في الوقت الحالي، إلا تجاوزاً عن المحاولات (الجارية)، سواء من طريق تأليف حزب جديد يخلف مُنظّمة ما، أو عن طريق النقاش العمومي من خلال الندوات التي تعقد لذلك، أو ربّما أيضاً من خلال محاولات أخرى، غالباً ما تجري في السرّ، للتأليف بين الأعضاء والتجمّعات والفيدراليات في سبيل تكوين جبهة نضالية تكون قادرةً على خوض النضالات الشعبية، أو المساهمة فيها في ضوء الشعارات الخاصّة بالتغيير أو الثورة الاجتماعية. وما ذلك إلّا لأنّ مرحلة الوعي بذلك، رغم الانهيارات التي تحطّم العاملين وأهمّية الوحدة نفسها، لم تحن بعد في نظر فلاسفة التنظير الأيديولوجي في الأطياف اليسارية كلّها.

المناضل اليساري الحالم لا يرى إلا الخراب يُخيّم على الأوضاع القائمة، ولا يحلم بالثورة لأنّها فشلت، ولا في الإصلاح لأنّه ميّت

إنّ ما لا يدرك، ليس في المغرب وحده، بل في باقي الدول المغاربية أيضاً، هو أنّ انهيار جدار برلين، إلى جانب الأزمات الداخلية، النظرية والعملية والتجريبية، لكثير من الحركات والدول، كان كفيلاً بإسقاط النظم الاشتراكية والشيوعية المُدّعاة، فكيف لا تصبح التكنولوجيا الحديثة اليوم، بصرف النظر عن البحث المحموم عن التنظيم والتحالفات، أو عن المؤسّسات والتنسيقيات، أهم حزب يمكن له أن يقودها ويوجهها، ويدعوها إلى التجمّع وتجاوز الفرقة والزعامة... إلخ، تماماً كما يدعوها مثلاً إلى السفر، أو إلى حفل راقص، أو إلى إنشاء علاقة عاطفية، أو إلى العمل عن بُعد، أو إلى نظم قصيدة حماسية عن المقاومة بواسطة الذكاء الاصطناعي.