مغارب اليسار الماركسي
لم يعد للحركات اليسارية المغاربية، تلك التي عَدَّها أصحابها والمشايعون لها منذ أواخر الستينيات بـ"الحركات الماركسية اللينينية"، أي وجود يُذكر على مستويات مختلفة إعلامية وسياسية وثقافية أيضا. ثم إن الثقافة السياسية العامة، من خلال التاريخ الذي يؤرّخ أحداثها ووقائعها، لا يحتفظ بشيء كثير عنها، إلا ما كان من بعض مؤلفاتٍ لا يبدو أنها توثق لذلك توثيقا جدّيا يليق بمسارها ونضالاتها في العموم. ويبدو لي أن المظهر الأول لهذا "الغياب"، وهو انمحاء تام يشبه الاندثار، يرتبط بـ"الأزمة الشاملة" التي أطبقت على العقائد السياسية والفكرية الكبرى منذ أواسط الثمانينيات، في إطار التحوّلات الشاملة التي عبرت كلها عن تغير واضح في البدائل والتصورات والنماذج، وفي القيم ذوقية وجمالية كذلك. ويمكن أن نرى في تلك الأزمة أيضا نوعا من "الجمود العقائدي" الذي توازى تقريبا مع تسارع التحولات المذكورة وقوّتها، ولكنه، ارتكن بنوعٍ من اليقين المطلق، إلى المنطلقات والمفاهيم الكبرى التي كانت بمثابة الدليل العملي للتجارب اليسارية المغاربي كالقول بـ"لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية"، وأن "التنظيم الطلائعي البروليتاري هو قائد التحالف العمالي الفلاحي"، وهو السبيل الوحيد لإحداث الثورة إلخ ... وذلك كله في اعتماد شامل وحصري على التصوّرات الأيديولوجية التي بلورتها "الأممية الاشتراكية الثالثة" (1919)، وخصوصا ما اعتُمِد فيها من أساسيات كـ"النضال ضد النظام الرأسمالي، وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا، ومحو الطبقات الاجتماعية، وتحقيق الاشتراكية كخطوة أولى نحو المجتمع الشيوعي"... إلخ.
يمكن الاطمئنان إلى أن الحركات المذكورة قامت، مع الاختلافات الممكنة، إلى جانب طبيعة الفترات السياسية الملتهبة التي طبعت تجارب البلدان المغاربية، على "أنقاض" الأحزاب الشيوعية التقليدية، وكذا في تعارض مع تجاربها في النضال السياسي، وبالخصوص مع ما لم يكن، لأسباب تاريخية وعقدية، واضحا بشأن قضايا التحرّر الوطني على وجه الخصوص، علما أن أغلب تلك الأحزاب، في المغرب والجزائر وتونس أساسا، كانت فروعا للحزب الشيوعي الفرنسي منذ البداية، وأنها ظلت محكومةً بالتبعية التي فرضتها الأممية في التعامل مع القضايا الوطنية الخاصة، رغم "المغربة" التي أدخلت على بنيانها.
ظلت الأحزاب الشيوعية محكومةً بالتبعية التي فرضتها الأممية في التعامل مع القضايا الوطنية الخاصة، رغم "المغربة" التي أدخلت على بنيانها
يضاف إلى هذا أن تلك الحركات نَظَّرَت، منذ البداية، لمعضلات التحرّر الوطني من التبعية "الاقتصادية" والولاء السياسي المرتهن للقوى العالمية المتحاربة في نطاق الحرب الباردة، وأنها بنت جهازا مفاهيميا ثوريا يرمي إلى القيام بالثورة على الأوضاع السائدة واستبدال النظم القائمة بما يتجاوب مع المطامح الشعبية التي عبّرت عنها هي تحديدا بكثير من التجريد والاستيهام. مع الإشارة، بطبيعة الحال، إلى ما تَوَلَّدَ عن ذلك من أوضاع: أهمها، في المقام الأول، ما وُوجهت به من قمع للقضاء المبرم عليها، والحدّ من انتشارها بطرق أيديولوجية في غاية التشنيع والتبخيس، وقتل جنينها الأيديولوجي المُمَهِّد للثورة بعدوانيةٍ غير مسبوقة لإبطال نموذجها الثوري الحالم.
ويمكن اعتبار "الحركة الماركسية اللينينية" المغربية أهم حركة سياسية شبابية ثورية في مطالع السبعينيات من القرن العشرين بالمقارنة مع مثيلاتها في باقي الدول المغاربية. ظهرت، من الناحية التاريخية، استجابة لوعي (ممكن) بأهمية تجاوز مجمل الأوضاع القائمة الموسومة بالتخلف والاستبداد والتبعية، وذلك في مرحلة تميّزت بسيادة حالة الاستثناء (1965)، وإسكات صوت المعارضة الوطنية، وإلغاء الحياة النيابية المُبَشِّرة بالديمقراطية.
ونشأ اليسار التونسي نفسه في السياق نفسه تقريبا، رغم أنه لم يتجاوز، رغم الطموح الذي راود منظّريه الأُول، مرحلة البداية التأسيسية الملتبسة (في فرنسا ثم في تونس)، إلى جانب نضالات سياسية متفرّقة في الجامعة والشارع على سبيل التحريض واختبار ردود فعل السلطة الحاكمة، إلا أن المناخ الليبرالي الذي طَوَّقُه وخنقه تمثل أساسا في جملة من السياسات (الوطنية) التي اتّبعها نظام بورقيبة في مجالاتٍ مختلفة، بل وكان لبعضها الأثر الواضح في التحرّر النسبي والنماء (قضايا المرأة والأوضاع الاقتصادية عموما، إلى جانب بعض الإصلاحات السياسية رغم طابع العنف الذي تميّزت به في علاقة بالخصوم والمعارضين...).
لم يظهر في المجال الليبي أي أثر للوجود اليساري المستقلّ، ويعود الأمر لطبيعة السلطة الملكية التي حكمت البلاد في انعزال شبه تام عن المحيطين العربي والأمازيغي
ولم يُعرف في موريتانيا منذ أواسط الستينيات مدّ يساري مقنع من حيث تأثيره الأيديولوجي أو من خلال نضالاته العامة، إلا ما كان من "حركة الكادحين" التي انبثقت، في علاقة بتجارب بعض مؤسّسيها الشباب بحركة القوميين العرب. ويُذكر لهذه الحركة أنها كانت عروبية وذات أفق ماركسي، حاولت، بطرق دعائية وإعلامية محدودة، أن تتموقع، من منظور وطني "ديمقراطي"، في مجتمعٍ متخلّف ظلّ معزولا عن التطوّر التاريخي المغاربي سنوات. هذا رغم تأثّرها أيضا بما كان يعتمل في المحيطين، المغاربي والدولي، من تفاعلاتٍ، ولكنها لم تصمُد بالقدر الكافي في مواجهة المتغيّرات الجديدة في ظل القبضة الحديدية للسلطة الحاكمة، فعجزت تماما، بحكم أفقها العروبي أيضا، عن استيعاب العناصر الجوهرية المكوّنة للنسيج الاجتماعي والقبلي المنقسم على نفسه إثنيا وسلاليا.
ويمكن قول الشيء نفسه، مع الاختلاف، عن الجزائر التي بفضل الدور (الملتبس) الذي مثله الحزب الشيوعي في علاقة بالثورة الجزائرية وحركة التحرير الوطني، بالإضافة إلى المطامح التي أعلنت عنها جبهة التحرير الجزائرية بنوع من الإطلاق والشمولية والأحقية التاريخية النابعة من حرب التحرير والشهداء .. إلخ لم يظهر، في صلب التطوّر الخاص، ما قد ينبئ عن وجود حركة ماركسية لينينية، مع وجود تعبيرات أخرى تروتسكية ويسارية (رومانسية)، تستطيع بالوضوح الكافي أن تعلن عن نفسها حركة بديلة للوجود الشيوعي ولباقي الأطراف السياسية الأخرى، أو سعيها إلى إسقاط السلطة العسكرية الوطنية التي أقامتها جبهة التحرير، وجعل منها الرئيس بومدين، بعد انقلابه الشرس على رفاق الأمس ومختلف المعارضين، عنصرا أساسيا في السيطرة والتحكم والبناء (الاشتراكي) الذي نواه للتطوّر في البلاد.
ولم يظهر في المجال الليبي أي أثر للوجود اليساري المستقل، ويعود الأمر، فيما أفهم، لطبيعة السلطة الملكية التي حكمت البلاد في انعزال شبه تام عن المحيطين العربي والأمازيغي، من حولها وعلى حدودها مع الجمهورية العربية المتحدة. ثم كان الانقلاب العسكري الذي قاده معمر القذافي (1969) قد أتى بمقوّمات نظرية وعملية سهلت، بصورة واضحة، عملية استيعاب للمجتمع الذي كان طابع التخلف والهامشية واضِحَيْن فيه مُسَيْطِرَيْن عليه. ويبدو أن الصيغة الشعبوية (دُمِغَت في "الكتاب الأخضر" بالثالثية) التي اعتمدها القذافي لترسيخ حكمه والسيطرة العمياء على مقدّرات قوّضت كل إمكانية لبروز مختلف أشكال المعارضات، وقضت عليها في المهد، إما بالملاحقة أو بالتصفيات في الداخل والخارج.
"الحركة الماركسية اللينينية" المغربية أهم حركة سياسية شبابية ثورية في مطالع السبعينيات بالمقارنة مع مثيلاتها في باقي الدول المغاربية
ويمكن أن نفهم، من خلال هذا كله، كيف أن الظاهرة الأبرز لوجود الفكر الماركسي اللينيني، الجديد في محتواه بالنسبة للسياق العربي، كان شاملا تقريبا، سيطر على بعض النخب التي تولت عملية التحرير، ثم إنه ظهر على أنقاض الفكر التقليدي عموما بمحتوييه الديني والوطني. فتأكّد للعاملين في صفوف الحركات اليسارية أن المستقبل المنظور سيكون حاسما في إحداث الثورة الشاملة القادرة وحدها على تحرير شعوب المنطقة من التخلف العام، ومن النظم البالية التي تسبّبت في ذلك.
يضاف إلى هذا أنه كان متعدّدا، أي كوحدات تتمركز على ذاتها وتحاول الانفراد بالأحقّية التي لها، نظريا وعمليا، على جميع المستويات التي اهتمت بالتنظر لها. وأفهم من هذا أيضا أنه ظلّ منعزلا بمجموعاته، يحاول التأقلم، بوازع من بواعثه النظرية، مع وضعية المجتمعات حاول الانغراس فيها، فيما كان العامل الديني فيها من أهم عوامل (الوحدة) في سبيل التعبئة الوطنية.
مع العلم، بطبيعة الحال، أن الفكر المذكور كان، في حقيقته، "فورة شبابية" اعتمدت على مقوّمات فكر الأممية الثالثة (إلا من تبنّى منها المنزع الماوي في النظر والتحليل) فنسخت بذلك، على نحو معين، منطلقات النظر الستاليني في العمل التنظيمي السياسي مع مطمح الثورة الاجتماعية ... في الوقت الذي كان فيه المنزع الستاليني في فترة تراجع وانهيار، أو تحوّل إلى فكر أقلية تتعرّض على الصعيد الأوروبي وفي مناطق أخرى من العالم لسهام النقد والتجريح، أزالت عنها "القدسية" التي تقدّست بها لدى كثير من الحركات السياسية في العالم.