معضلة لي كوان مع ماليزيا
تعتمد مصادر هذه الرؤية النقدية بصورة رئيسية على كتاب مؤسس سنغافورة الحديثة "قصة سنغافورة". ومن المهم للغاية أن نُلخّص أزمة ميلاد الاستقلال التي شملت أرخبيل المالايو وسنغافورة وبروناي، والأخيرتان كانتا أيضاً ضمن ديموغرافيا أمة المالايو أهل الأرض والتاريخ القديم، التي واجهت حملات الإبادة الكولونيالية الغربية القديمة والحديثة، لكنّ هذه القومية صمدت في أرضها، وظلت رقماً صعباً رغم التهجير السياسي الحديث، في عهد بريطانيا.
كان المشترك بين تنكو عبد الرحمن قائداً للمالايو ولي كوان يو، ضرورة التعامل عبر الضغط السياسي والكفاح الفكري مع العهد الأخير للوجود البريطاني الذي أبدى الاستعداد للانسحاب، لكنّ مرحلة الشروط والتنفيذ كانت تحت الضغط والتفاوض، ويتفق لي كوان مع مهاتير محمد على وجود مبالغة كبيرة لدى تنكو عبد الرحمن في مراعاة الإنكليز، وبالذات في التعامل مع حركة عدم الانحياز التي كانت أقرب إلى المعسكر اليساري، لكنّها كانت تمثل ضرورة توازن قصوى.
لكن، بالعموم، كان موقف تنكو عبد الرحمن متطابقاً مع لي كوان في علاقتهما مع الإنكليز لهدف تأمينٍ مستقل للإقليم، وإشارات كوان إلى تقارب أكبر لتنكو من الغرب منه لا تصدّقها تفاصيل علاقاته ووثائقه المشارة إليها في كتابه، خصوصاً خاتمة مشروعه السياسي في سنغافورة .. حينها لم يكن للي كوان منزلة توازي تنكو، فموقعه لم يكن مؤهلاً مطلقاً ليكون زعيماً مقبولاً للمشاركة عند المالاويين، وهم الديموغرافيا الكبرى في الإقليم، فضلاً عن أن يكون الزعيم المطلق للأرخبيل، ولكن تنكو عبد الرحمن قرّبه ودعمه، وأشركه في الخطة الإقليمية والتي كانت تُنسّق مع لندن في مواجهة خطرين كبيرين، الأول تهديد الزعيم الإندونيسي التاريخي أحمد سوكارنو، بغزو ماليزيا وضمها عنوة، وخصوصا بعد التحامه مع بكين وموسكو في ذروة تحوله اليساري.
تلعب القومية المشتركة بين الشيوعيين في الصين، وبين الصينيين في المالايو وفي سنغافورة دوراً بالغ الحساسية، يصنع اشتباكاً صعباً
أما الثاني فهو قوة الأحزاب الشيوعية في أرخبيل ماليزيا، وفي سنغافورة والدعم المطلق لها من الصين، وهنا تلعب القومية المشتركة بين الشيوعيين في الصين، وبين الصينيين في المالايو وفي سنغافورة دوراً بالغ الحساسية، يصنع اشتباكاً صعباً، لو قُذفت فيه ماليزيا لما وصلت إلى يوم الاستقلال ولا الميلاد الجديد، أو لربما كانت ستتحوّل لمجرّد مسمّى دولة في هيكلها السياسي، يخضع كلياً لسلطة ونفوذ الصين، وهو الخطر الرئيس الذي لا ينفك عن الماليزيين حتى اليوم، ومتجذرٌ في قلقهم السياسي والاجتماعي.
كان لي كوان يعلم أنّ واقع تجربته السياسية القوية والفعّالة في سنغافورة لن تضمن له مقعداً مؤثراً، خصوصاً في المشروع النهائي، فسنغافورة لن يكون استقلالها متاحاً ومؤمّناً، إلّا إذا كان عبر استقلال المالايو (ماليزيا اليوم) أولاً، فهو يخشى من القوة الشيوعية الصينية في سنغافورة، المتمكنة من النقابات واتحادات الطلبة والحرفيين والمهنيين، ولذلك أصر على ربط سنغافورة باستقلال ماليزيا، والعجيب أن تنكو عبد الرحمن تجاوب مع حرية سنغافورة، وبشهادة لي كوان نفسه، رغم أنّهُ كان مدركاً خطر ضمها على ماليزيا، وهذا خلافاً لما قاله مهاتير محمد لـ"الجزيرة"، فتنكو، بحسب سياق قصة سنغافورة، استجاب في ظل ضغط لي كوان، الذي استثمر رغبة التاج البريطاني للدمج، فلندن كانت تخشى من تحوّل شرق آسيا إلى قبضة الصين الشيوعية وملء الفراغ الإنكليزي الذي كان ينحسر عن مستعمرات بريطانيا. ويُثبّت لي كوان في كتابه مقولة تنكو عبد الرحمن له، والتي تُفهم إشاراتها بوضوح أن هذا الأرخبيل اسمه المالايو، وأمة المالايو هم ترابه وشجره وروحه لا مكان لهم غيره، حيث قال للي كوان: "لصينيي وهنود ماليزيا وسنغافورة وطن يرحلون إليه، لكن ليس للمالايو إلّا هذا الوطن"... ولم تكن تسمية صينيي ماليزيا أو هنودها، مشروعاً مستحدثاً لمنظمة المالايو المتحدة (آمنو) العدو التاريخي للي كوان. لكنّ المصطلح ارتبط بالمُجتَمَعَين، عبر التشكلات السياسية الاجتماعية للمهاجرين الجدد في سياسة بريطانيا، وتواصل هذا التمسّك بالمرجعية القومية لكلا المواطنتين، (الصينيين الماليزيين والهنود الماليزيين)، حين تجاوب تنكو مع مطالبة ضم سنغافورة لأرخبيل الاستقلال، رغم تهديد التغيير الكبير في تركيبة ماليزيا السكانية، لم يكن هناك صراع بينه وبين لي كوان، وواصل لي كوان، من خلال موقعه أحد المسؤولين في مشروع تنكو للاستقلال، مشاركة الزعيم الأبرز في رحلة ماليزيا وسنغافورة للاستقلال.
لو سَلِمت ماليزيا من نكستها في الفساد السياسي والاقتصادي، واستثمرت روح المرأة الناهضة النشيطة فيها، فإن التوارث للشعور بعجز الذات سيزول
متى إذاً وقع الخلاف؟ يداوم لي كوان على التبخيس من تنكو، كما أنّ "روايته عنه" في المشروبات الكحولية وفي النساء قبل توبته، واتجاهه إلى مفاهيم الوحدة الإسلامية أمينا عاماً لمنظمة المؤتمر الإسلامي، لا يُمكن أن تقرأ بصيغة مهنية، لكنّها تفهم، من خلال نفسية أزمة للي كوان، والتي كانت تتدفق عليه في فصول قصته مع أمة المالايو، وهو ملفٌّ له بعده وإشكاليته أيضاً في المجتمع الماليزي القديم نفسه.
وهو ملف انتقده مهاتير محمد بشدة في كتابه معضلة المالايو، وهي قصة طويلة في عجز الذات المالايوية عن التحول إلى نهضة فرد تصنع نهضة مجتمع، ثم تتحوّل إلى قاعدة قوية للنهضة الصناعية والمدنية. هو ملف يحتاج إلى علاج وطني مركزي، فرغم وجود طبائع تغلب على الشعوب، إلا أنني أرى هذا الأمر مبالغا فيه، وأحسبُ أن ماليزيا لو سَلِمت من نكستها في الفساد السياسي والاقتصادي، واستثمرت روح المرأة الناهضة النشيطة فيها، مع خلق أجيال تعليم مميزة، تبني على تحالف مهاتير/ أنور، فإن هذا التوارث للشعور بعجز الذات سيزول.
وكلا الشخصيتين اللدودين، لي كوان ومهاتير، كانا يؤكدان هذه الأزمة، لكن كل من مساحته، فكوان يشير لها في معرض عجز أمة المالايو المتخلف، الذي يجب أن يتحمّل مسؤوليته، فتكون القومية المالايوية في أرضها، تحت سياق الانقياد لا القيادة، ويُفتح الطريق أمام صينييها دستورياً لقيادة الأرض والشعب معاً، وهو هدفه المعلن لتبرير صراعه، أما مهاتير فكان يَنقد الذات لإنقاذها.