معضلة الانتقال الاقتصادي في تونس

08 مارس 2024

تونسية تعمل في معمل نسيج في ضاحية قصر السعيد في العاصمة تونس (18/5/2020/الأناضول)

+ الخط -

يعدّ الازدهار الاقتصادي عاملاً أساسياً من عوامل قيام الدول واستمرارها وإشعاعها عالميا. فكلّما كان الاقتصاد ديناميا، متطوّراً، مستجيباً لحاجيات الناس، محقّقا الرفاه العام، تحقّق الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، وتعزّزت أسباب الثقة بيْن النظام الحاكم وجمهور المحكومين. وبقطع النظر عن طبيعة النظام الاقتصادي، سواء كان مركزيا، مؤسّساً على تحكّم الدولة في الدورة الاقتصادية أو ليبراليا، مبنياً على تحرير السوق، أو ذكّياَ يعتمد على التكنولوجيا الحديثة، فإنّ المطلوب أن يكون المنوال الاقتصادي ناجعا، قادرا على توفير خدمات القرب، ومواطن الشغل، وأساسيات الحياة وكمالياتها، ضامنا التوازن بين العرض والطلب، محققا التنمية الشاملة، والتنافسية النزيهة، مراعيا القدرة الشرائية للمواطنين على نحو يحلو معه المقام، ويغدو معه العيش الكريم أعدل الأشياء قسمة بيْن الناس. وبذلك يمكن أن تلتحق الدولة بمصاف البلدان المتقدّمة اقتصاديا. أمّا إذا كان المنوال الاقتصادي تقليديا، متكلّسا، متعثّرا، غير قادر على مواكبة مستجدّات السوق، وحاجيات المواطنين، ولا يعتمد المأسسة، والحوكمة، والرقابة، والاستثمار الرشيد، وتجديد التشاريع في إدارة المشاريع التنموية والحياة الاقتصادية، ولا يوفّر القدْر الكافي من مؤسّسات الرعاية العمومية المتطوّرة، ومواطن الشغل، وأسباب العيش الكريم، فإنّ ذلك يجعل الناس في ضيق، ويُربك العلاقة بيْن الحاكم والمحكوم، ويؤذن باحتقان اجتماعي وعدم استقرار سياسي، فالاقتصاد قوام الأعمال، وأساس المعاش، وبانخرامه، ينخرم العمران كله.

والناظر في سيرة تونس منذ تأسيس الجمهورية (1956)، مرورا بعقد الثورة (2011ـ2021)، وصولا إلى حركة 25 يوليو (2021)، يتبيّن أنّ البلد لم يتمكّن على امتداد عقود من فكّ شفرة الانتقال الاقتصادي، ولم يخرُج من بوتقة الاقتصاد الريعي، الاستهلاكي، المتعثر إلى رحاب الاقتصاد الإنتاجي، الابتكاري، المستدام. وانعكس ذلك سلباً على حياة جلّ المواطنين، وزاد من معاناتهم، وحال دون قيام دولة الرفاه العام. ولذلك تجلّيات عدّة وأسباب شتّى.

تُجسّد مرحلة حكم الحبيب بورقيبة رحلة تونس التائهة في البحث عن نموذج اقتصادي رشيد

تُجسّد مرحلة حكم الحبيب بورقيبة رحلة تونس التائهة في البحث عن نموذج اقتصادي رشيد. فقد جرّب الرجل إبّان الاستقلال (1956–1961) إسقاط منوال الرأسمالية الغربية على السياق الريعي التقليدي التونسي. لكنّ التجربة لم تنجح في بيئة اقتصادية كلاسيكية، مسكونة بالبيروقراطية، والخوف من الإصلاح والتجديد، فلم تتجاوز نسبة النمو بين 1959 و1962 حدود 5،3%. لذلك ضاق بورقيبة ذَرعًا بالبرجوازية التونسية الصغيرة التي لم تكن في مستوى القدرة على بناء اقتصاد عتيد لجمهورية فتيّة، فنقد دعاة لَبْرلة الاقتصاد في خطاب ألقاه في صفاقس في يونيو/ حزيران 1963، قائلا: "نقول إلى أولئك الذين يدافعون عن الحرية الفردية والقطاع الخاص والمشاريع الحرّة إنّ هذا المخطط لا يلبّي مصالح الجميع. والعمل الجماعي، في وضعيتنا، هو الأكثر نجاعة". وبناء عليه، اتجه نحو استحضار منوال الاقتصاد الاشتراكي. فاعتمد التجربة التعاضدية في تونس من خلال إصدار برنامج "الآفاق العشرية للتنمية 1962ـ1971" المنظَّم بقانون عدد 19 المؤرّخ في 25/05/1963. ومع أنّ عشرية التعاضد شهدت تأميم أراضي المعمّرين، وإحداث بعض المشاريع الصناعية في المناطق الداخلية، وتعصيرا محدودا للقطاع الفلاحي، وتشييدا لمؤسّسات تعليمية في مناطق نائية، فإنّها أضعفت المقدرة الشرائية للمواطنين وأدّت إلى تجميد الأجور، وارتفعت الضرائب بين 1962 و1971 بنسبة 225% ودفعت الطبقتان الوسطى والدُنيا نسبة 72.2% من مجموع الضرائب. أما نسبة المديونية فقفزت من 22.1% سنة 1961 إلى 43.5% سنة 1970. فنفض بورقيبة يده من تجربة التعاضد وزجّ المشرفين عليها، وفي مقدّمتهم أحمد بن صالح في السجن. والواقع أنّ التجربة فشلت في تحقيق الانتقال الاقتصادي المنشود لعدّة أسباب، من بينها تهديد تجربة التعاضد لمصالح الأرستقراطية الفلاحية وطيْف من أنصار الحزب الدستوري الحاكم، لذلك بذلوا الجهد لتشويهها دعائيا، وعرقلتها عمليا.

يضاف إلى ذلك الطابع الفوقي/ المركزي للتجربة، فلم يقع تشريك الفاعلين المحليين في تصور التعاضديات وإحداثها وفق حاجيات الناس. كما غابت الشروط الديمقراطية الدنيا في تسييرها، وتمّت إدارتها بطريقة حزبوية سلطوية، ما أدّى إلى نفور المواطنين منها. ودفع ذلك بورقيبة إلى استعادة نموذج اقتصاد السوق والملكية الفردية مع تعيين المحافظ السابق للبنك المركزي الهادي نويرة، وزيرا للاقتصاد ثم رئيسا للوزراء. واتّجهت المنظومة الحاكمة نحو تحجيم تدخل الدولة في القطاع الصناعي وتشجيع الخصخصة، وحاولت المجازفة بتعديل منظومة الدعم، والترفيع في أسعار المواد الأساسية، فأدّى ذلك إلى احتجاجات شعبية سنتي 1978 و1984. فبدا واضحا أنّ تغيير المنوال الاقتصادي لم يكن فعلا مدروسا بعمق ونتيجة حوار مجتمعي واسع، وتشريك لأهل الاختصاص. بل كان فعلا ارتجاليا، خضع لأهواء رئيس الجمهورية وميول الحزب الحاكم.

عند ظهور حركة 25 يوليو، تشوّف طيف مهمّ من التونسيين إلى مستقبل اقتصادي أفضل، وتحسين أوضاعهم المعيشية، لكنّ ذلك لم يتحقّق

مع تدشين انقلاب طبّي على بورقيبة، حرص الجنرال زين العابدين بن علي على إدارة البلاد بقوّة العصا الأمنية، وتوفير الكفاف المعاشي للناس وتفادي ضرب مقدرتهم الشرائية مقابل أن يسلّموا له الحكم مطلقا، واقتضى منه ذلك السيطرة على السوق، فوضع منظمة الأعراف تحت سطوته، واحتوى الاتحاد العام للشغل. وبناء عليه، واصل مشروع الخصخصة، واندفع نحو تحرير السوق والتفريط في شركات عمومية وبنوك ذات مردودية ضعيفة، وعقد شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وظهر في صورة التلميذ النجيب في تعامله مع البنك الدولي، وشجّع الاستثمار المحلّي والأجنبي، وبعث في ديسمبر/ كانون الأول 1992 "صندوق التضامن 26ـ26" لدعم الفئات الهشّة والمناطق المهمّشة، وحاول نظامه امتصاص ظاهرة البطالة بإحداث شركات المناولة وعقود العمل قصيرة المدى. ومكّنه ذلك خلال العَقد الأوّل من حكمه من توفير سيولة معتبرة لخزينة الدولة، وتحقيق استقرار اجتماعي نسبي. لكن مع بدايات الألفية الثالثة، اتسعت دوائر الفقر، والبطالة في صفوف خرّيجي الجامعات، وعجز النظام عن إحداث مواطن شغل جديدة، وتغلّقت أبواب الهجرة النظامية بسبب قيود فرضتها أوروبا، وانتشر التهريب والاقتصاد الموازي، فقلّت المداخيل الجبائية الموجّهة إلى خزينة الدولة. وتمّ إغراق السوق التونسية بالبضائع الصينية والأوروبية، ففقد المنتج التونسي قدرته على المنافسة. وأدّى ذلك إلى إغلاق عديد الشركات وتسريح كثير من العمّال. وفاقم صعود لوبيات عائلية مقرّبة من النظام الحاكم وهيمنتها على السوق وعلى القطاعات الأكثر ربحيّة في تعطيل ظهور مستثمرين جدد. وأضحى الانتصاب للحساب الخاص يقتضي الولاء للحزب الحاكم، أو دفع رشاوى لرموز النظام أو التقرّب من أسرة الرئيس أو عائلة زوجته للحصول على رُخص وتسهيلات إدارية. وسيطر هؤلاء على مصادر الإنتاج ومسالك التوزيع، وأمعنوا في نهب المال العام، ففقد بذلك منوال اقتصاد السوق شرط التنافسية النزيهة وغدا منوالا ريعيا، قائما على الزبونية والمحسوبية. وأدّى انخرام الوضع الاقتصادي إلى اندلاع ثورة شعبية عارمة أطاحت بن علي.

خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي، تعاقبت على حكم البلاد 13 حكومة، لكنّها لم تنجح جميعا في تحقيق الانتقال الاقتصادي المنشود، فمع أهمّية المنجزات السياسية والحقوقية في تلك الفترة، ظلّ الاقتصاد رخوا، والتنمية الشاملة ظلّت معطّلة، ونسب النموّ كانت ضعيفة. لكنّ الثابت أنّ المنظومة الحاكمة في تلك الفترة استفادت من تمويلات الريع الديمقراطي، ومن مساعدات مالية مهمّة قدّمتها الجهات المانحة، وقامت بتشغيل آلاف العاطلين من العمل، ووفّرت المواد الأساسية في السوق، وأمّنت زيادة دورية في الأجور، لكنّ المؤشرات الاقتصادية لم تتحسّن بسبب العمليات الإرهابية، واستهداف القطاع السياحي، وأزمة كوفيد 19، والمطلبية النقابية، وتعطيل محتجين بعض مراكز الإنتاج، فلم تنتقل بذلك البلاد إلى نموذج اقتصاد إنتاجي، وظلّت أسيرة اقتصاد اتّكالي، متعثر.

 تحتاج تونس إلى حوار مجتمعي واسع، ووفاق سياسي/ تشاركي متين لبلورة معالم منوال اقتصادي، ناجع

عند ظهور حركة 25 يوليو (2021)، تشوّف طيف مهمّ من التونسيين إلى مستقبل اقتصادي أفضل، وتحسين أوضاعهم المعيشية، لكنّ ذلك لم يتحقق. وعمليّاً، أمر الرئيس قيس سعيّد ببعث شركات أهلية للتقليص من البطالة، وبادر بتفعيل الصلح الجزائي مع رجال أعمال، وأوصى باسترجاع الأموال المنهوبة من الخارج لتعزيز الموارد المالية. لكنّ حصيلة هذه المشاريع ما زالت ضعيفة. ومع أنّ القطاع السياحي تعافى نسبيا بسبب استقرار الوضع الأمني، وانقشاع أزمة كورونا، وعاد إنتاج الفوسفات إلى نسقه الطبيعي، وتراجع الحراك الاحتجاجي مع انحسار الدور النقابي لاتحاد الشغل، فإنّ جلّ المؤشرات الاقتصادية سلبية، وأوضاع الناس ازدادت سوءا بحسب مراقبين. فوِفق تقديرات المعهد الوطني للإحصاء لم تتجاوز نسبة النمو0.4% لكامل سنة 2023، وارتفعت نسبة البطالة إلى حدود 4،16%.والفقر إلى 16.6%عام 2021. وبحسب البنك الدولي، بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة 0.8% فقط من الناتج المحلي الإجمالي خلال النصف الأول من 2023. فيما بلغت نسبة الدين العام 80% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022، مقارنةً بـ 68% في العام 2019، وأصبحت البلاد تعاني من نقصٍ حادّ في مواد أساسية وأدوية حيوية، وارتفعت أسعار المواد الغذائية في ديسمبر/ كانون الأول 2022 بنسبة 14.6 % عمّا كانت عليه عام 2021، وتمّ الترفيع أخيرا في أسعار280 صنفا دوائيا. وأرهق ذلك المقدرة الشرائية، وأورث شعورا بخيبة أمل من المخرجات الاقتصادية لمسار25 يوليو بحسب مراقبين.

ختاما، تحتاج تونس إلى حوار مجتمعي واسع، ووفاق سياسي/ تشاركي متين لبلورة معالم منوال اقتصادي، ناجع، يخرج البلاد من قُمقم الاقتصاد الريعي إلى رحاب الاقتصاد الابتكاري، التكاملي، المنتج.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.