معضلة إصلاح التعليم في المغرب
لا يزال الغموض، في المغرب، يخيّم على مآل الحوار بين اللجنة الوزارية والنقابات بشأن النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية، على الرغم من توصل الطرفين إلى اتفاق يقضي بتعديله، وسحب مقتضياته المتعلقة بالعقوبات الجديدة، وسريانه على جميع موظفي الوزارة، بمن فيهم العاملون في الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، والزيادة في الأجور. فقد قرّر ''التنسيق الوطني لقطاع التعليم'' و''الجامعة الوطنية للتعليم'' خوض إضراب جديد اليوم، الخميس، وغداً الجمعة، بينما أعلنت تنسيقيات أخرى خوض إضراب أربعة أيام، وسط تباين المواقف بشأن دعوة الوزارة الأساتذة إلى العودة إلى الأقسام. وبالتوازي مع ذلك، يطالب آباء التلاميذ وأمهاتهم بـ ''تغليب مصلحة التلاميذ والتوافق على حلّ يُرضي كل الأطراف''، في ما يبدو إشارةً إلى نفاد صبرهم بعد انصرام أكثر من ثلاثة أشهر من الإضرابات المتواصلة.
وإذا كان من شأن استجابة الحكومة لمطالب الأساتذة أن توقف احتجاجاتهم وتعيدهم إلى الأقسام، فإن تعويض التلاميذ عن الزمن المدرسي الذي أُهدر منذ بداية الموسم الدراسي يبقى أكبر تحدٍّ تواجهه المنظومة خلال الأشهر المقبلة. وعلى الأغلب، لا تتوافر الحكومة على خريطة طريق، تسمح بتدارك الأمر وإعادة الثقة للمجتمع في المدرسة العمومية التي باتت بحاجة لإصلاح عميق، يضعها في مستوى التحدّيات التي يجابهها المجتمع المغربي على أكثر من صعيد.
تتحمّل الحكومة المسؤولية في الأزمة الحالية في قطاع التعليم، لأنها وضعت نظاماً أساسياً غير متوازن، فلم تربط الأعباء والواجبات التي تقع على كاهل الأساتذة والأطر (الكوادر) التربوية والإدارية بمقتضيات تحفيزية موازية، تفتح أمامهم آفاق التطوّر والترقّي الاجتماعي. لم يُنصف النظام الجديد الأساتذة ويحسّن ظروفهم الاجتماعية، انسجاماً مع الخطاب الرسمي الذي يؤكّد أهمية التعليم في النموذج التنموي الجديد، بل عكست مقتضياته مقاربة تقنية وأمنية بحتة بعيدة عن الواقع.
أعادت احتجاجات الأساتذة إلى الواجهة المعضلة المزمنة لمنظومة التربية والتكوين. وهي معضلة تعكس مأزق الإصلاحية المغربية الذي تعيد السلطة والنخب والمجتمع إنتاجه؛ يتعلق الأمر بعدم ثقة السلطة في مجتمعٍ تُمثِّلُ الطبقةُ الوسطى الحضريةُ والمتعلمةُ قاعدتَه العريضةَ. إنها غير معنيةٍ بإصلاح هذه المنظومة جذرياً، لأنها، ببساطة، غير مستعدّة لدفع التكلفة السياسية لإصلاحٍ يؤدّي إلى إعادة صياغة علاقات القوة داخل المجتمع، بما يسمح بتوسيع هوامش المشاركة السياسية ودمقرطة السياسة المغربية، وذلك بإدماج شرائح مجتمعية واسعة في الحياة السياسية، بدل حصر هذه السياسة في لعبةٍ متوافَقٍ عليها بين السلطة والنخب والأحزاب والنقابات.
التعليم الجيد والمنصف والشامل ينمّي الحسّ النقدي وثقافة المساءلة والمشاركة، ما يعني بناء مجتمع حيٍّ أكثر انحيازاً لقيم الحداثة والتنوير. وبالرجوع إلى فترة ما بعد الاستقلال، نجد أن التعليم في المغرب، وإنْ لم يكن مثالياً، إلا أنه ساهم في إطلاق حراكٍ اجتماعي ملحوظٍ، إذ مكَّن شرائح واسعة من تحسين واقعها الاجتماعي والمعيشي. وبالتالي، أحدث تحوّلاً عميقاً داخل المجتمع المغربي، غير أن هذا التحوّل كان مقلقاً بالنسبة إلى المواقع المحافظة داخل الدولة والسلطة والمجتمع، بعد أن أصبح موظفو التعليم، بمختلف فئاتهم، يشكلون القاعدة الاجتماعية لأحزاب المعارضة، المنحدرة من الحركة الوطنية، والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، ولا سيما تلك التي كانت تنشط في المجالات الحسّاسة، وفي مقدمتها المنظمات الحقوقية والنسائية والثقافية. جعل هذا الوضع قطاع التعليم في مرمى القوى المحافظة التي رأت في إصلاحه خطراً على مصالحها. من هنا، كانت معظم السياسات والتدابير والبرامج التي توخّت إصلاحه موَجّهةً لرفع الحرج أمام المغاربة الذين يُعَدُّ تعليمُ أبنائهم هاجسهم الأكبر.
من المؤسف أن تصبح وظيفة التعليم العمومي المغربي محصورةً في محاربة الأمية وإنتاج تلاميذ وطلبة يفتقدون الحد الأدنى من الكفايات المطلوبة، حسب تقارير وطنية ودولية. لذلك، بصرف النظر عمّا يمكن أن تؤول إليه معركة كسر العظام بين الحكومة والأساتذة، من غير المرجّح أن يكون لتعديل النظام الأساسي، أو حتى تغييره بنظام آخر، أثرٌ في النهوض بالتعليم العمومي في غياب الإرادة السياسية لإنجازِ ذلك.