معركة كسر الغرور وكيّ الوعي
ليس تقليلاً من أهمية ما حققته الصفحة الأولى من معركة طوفان الأقصى، المفتوحة على تطورات عسكرية وسياسية لا حصر لها، ومن غير أي تهويلٍ بمكاسب هذه الموقعة الحربية، أو أدنى تهوين بأهدافها المعلنة وتلك المضمرة، فإنه يصحّ القول إن أثمن ما تحقّق في الساعة الأولى، من إنجازات فاقت كل التوقّعات المتفائلة، وإن لم تكن غير ملموسة في هذه اللحظة السياسية الفارقة في تاريخ الكفاح الفلسطيني، قد تمثّل في تحقيق هدفين كبيرين بالغي الاستثنائية، يستحقّ كل واحد منهما التنويه بشدّة، بل وينبغي الإضاءة عليهما بكثافة، لما يستبطنان، معاً، من مغزى عميق، أحسب أنه كان حاضراً في أذهان أرباب هذه المواجهة الحربية غير المسبوقة، في سجل الحروب العربية ـ الإسرائيلية السابقة، سيما من حيث موقع الميدان على الأقل.
دعك من حجم خسائر العدو في العديد والعدّة، رغم هولها بالمعايير الإسرائيلية، واصرف النظر عن عدد الأسرى والمفقودين من الجنود والمستوطنين، وقل ما شئت عن عظم المفاجأة الاستراتيجية والعملانية والتكتيكية، وعن الإخفاقات الاستخبارية والسياسية، وحدّث ولا حرج عن قهر الجيش الذي لا يُقهر، وعرّج كما يروق لك على مظاهر الفوضى والشلَل والصدمة والارتباك وعدم اليقين، الذي ران على وجوه القوم في الدولة العبرية، فقد باتت في حوزتنا إنجازاتٌ محقّقة بصورة تامة، ربما تفوق كل ما سبق ذكره من حيث الأهمية، وقد تكون لاثنين منها آثارٌ إيجابيةٌ عميقة الغوْر وبعيدة المدى، على مجرى الصراع الطويل الذي لا يزال طويلاً بكل تأكيد.
الأول ماثلٌ في كسر غرور القوة، أو قل تحطيم الصلف والاستعلاء وروح الغطرسة، وكل تلك المظاهر الفاشية التي ظلت تتسم بها مسلكية قوات الاحتلال، ليس إزاء الشعب الفلسطيني فقط، وإنما أيضا إزاء العرب قاطبة، بما في ذلك المطبّعون، فقد صنعت الفيديوهات المبثوثة بعناية فائقة، والمشاهد المذلّة لضباط وجنود أسرى وهم عراة أو بملابسهم الداخلية، صورة أشد وطأة على العقلية المغرورة بنفسها، المتبتلة في محراب القوة المجرّدة، وفعلت بها أفعالاً أكثر مرارة، وأدهى بكثير مما حقّقه اقتحام المستوطنات المحيطة بقطاع غزّة، سيما وأن ذلك وقع في إطار معركةٍ عسكريةٍ جرت على جبهة من سبعين كيلومتراً، وليس في نطاق عملية تسلّل محدودة.
وأحسب أن غرور القوة، الذي أدّى إلى وقوع خسائر إسرائيلية باهظة في حرب أكتوبر 1973، وقد انكسر بعض الشيء في حينه، هو الغرور ذاته الذي أوقع بقوات الاحتلال في غلاف غزّة، وكأن خمسين سنة لم تمرّ، وأن دروس التاريخ لم يقرأها أحد في القلعة المشيّدة على جناح طائرة حربية أميركية من نوع F16، الأمر الذي كان له السهم الأوفر في الإمساك بالحرّاس وهم نيام في نوبة الحراسة، إن لم نقل إنه أمسك بإسرائيل كلها متلبّسة بغواية القوة.
الثاني ماثلٌ بدوره في مسألة كيّ الوعي، الذي عمل عليه قادة مؤسّسة الاحتلال طويلاً، وحاولوا من خلاله كيّ الوعي لدى الفلسطينيين خصوصا والعرب عموماً، بدفعهم بقوة الحديد والنار إلى بلوغ حالة اليأس من الانتصار في أي مواجهةٍ حربية، وحملهم على الاستسلام والقبول بدولة الاحتلال حقيقة نهائية، الأمر الذي يمكن القول معه إن السحر قد انقلب على الساحر أخيراً، وإن المشاهد المنقولة من عين المكان، من غلاف غزّة المحاصرة، قد ردّت البضاعة البائرة إلى أصحابها كاملة غير منقوصة، وأنها حفرت بالشاكوش والإزميل وسماً لا يُمحى من ذاكرة المحتلين ومخيالهم الجمعي، وفوق ذلك أنه إذا جرت الحرب وجهاً لوجه، بدون طائرة التفوّق الجوي الأميركية، فهم الخاسرون حتماً، على نحو ما تجلّى عليه اقتحام مستوطنات غلاف غزّة.
هذان المعطيان المتحقّقان في اليوم الأول من معركة طوفان القدس، قد لا يتم الانتباه إليهما في حمأة الحرب الدائرة، وقد لا يُلمسان باليد في المدى المنظور، جرّاء ما تلده المعركة من تطوّرات بالغة السخونة، إلا أنهما سيظلان، إلى جانب معطياتٍ كثيرة أخرى، منجزيْن عظيميْن من منجزات أول حربٍ في تاريخ الصراع المديد تدور، هذه المرّة، حصراً على الجانب الإسرائيلي، حتى وإن كان ذلك لفترة قصيرة، كانت كافية لكسر صورة دولة إقليمية عظمى، سواء في مرآة نفسها أو في مرآة العالم كله، كما حطّمت غرور القوة لدى الدولة الوحيدة التي يُطالب أحباء صهيون في الغرب بإنقاذها من نفسها الأمّارة بالتوسّع والعدوان، خصوصا بعدما أصابها مرض الفاشية، واستبدّت بها أعراض عاهة التمييز العنصري.