معركة الأقصى
نعم، هناك معركة في المسجد الأقصى، ومعركة دفاع عنه، ليس فقط من ناحية دينية، على أهميتها، وإنما هي في قلب معركة التحرّر الفلسطيني، فالاستهداف الصهيوني لـ "لأقصى" هو استهداف لتاريخ الشعب الفلسطيني، وحقوقه. هي معركة شرعية الرواية التاريخية التي تحاول إسرائيل استبدالها بأساطير تبرّر استعمارها وطن الفلسطينيين، وتشرعنه.
تعتقد الدولة الصهيونية أنها وصلت إلى آخر مراحل تحقيق مشروعها، وتقويض مكانة الأقصى شرط اكتمال مخططها بتصفية حقوق الشعب الفلسطيني، وإنهاء قضيته المشروعة. لكنها معركة لا تستطيع أن تكسبها وسط تدفق أنهار المصلين والمدافعين عن الأقصى؛ فالوعي الفلسطيني أقوى من ترسانة جيش الاحتلال. وما نشهده هو معركة الدفاع عن القدس ورفض فصلها عن فلسطين، معركة كل فلسطين؛ فإسرائيل لم تكتف باحتلال القدس، فمعركتها هي إرضاخ الشعب الفلسطيني للتخلي عن الأقصى، وبالتالي عن فلسطين.
المسألة لا تقصُر على اعتداء على مسلمين، وهو اعتداء على مسلمي العالم، بل هي اعتداء كذلك على كل الفلسطينيين، فيوم الجمعة الفائت شهد سابقة إصدار قرارٍ من المحكمة لمنع الفلسطينيين المسيحيين من الوصول إلى كنيسة القيامة والصلاة فيها ومنع المصلين من جميع أرجاء فلسطين من المشاركة في شعائر الجمعة العظيمة، فلا مكان لغير السيطرة الصهيونية، ولا احترام لمسلم أو مسيحي، فلا مكان في المشروع الكولونيالي الإحلالي لفلسطيني، مسلماً كان أو مسيحياً. والشعب الفلسطيني يقاوم، لكن الأنظمة تتسابق على التطبيع التحالفي مع الدولة الصهيونية، ولم يتعدّ ردّ الفعل الرسمي سوى اجتماع خجول لعدد من الوزراء العرب، أناب أحدهم زميلاً له عنه، وقد كان قبل فترة وجيزة فخوراً مرتاحاً في احتفالية ما سمّيت "قمة النقب" المهينة لنظام عربي مهترئ، وهذا تماماً ما تراهن عليه كل من إسرائيل وواشنطن؛ تراهنان على شراكة عربية - إسرائيلية تعزل الفلسطينيين، وتوجّه الضربة القاضية إليهم ولقضيتهم وحقوقهم.
احتفلت واشنطن، وما تزال تحتفل، بالصمت العربي وبتسارع التطبيع التحالفي بين دول عربية وإسرائيل
حتى فترة قريبة، كانت واشنطن تراقب ردود الفعل العربية باهتمام شديد. وحتى وقت قريب، كان هناك في واشنطن من يخشى من أن العبث بمستقبل القدس والمسجد الأقصى سيثير العالم العربي، لكن ذلك تغيّر إلى حد كبير، بعد أن ساد الصمت عقب اعتراف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل.
كان هناك قلق حتى بين أعتى الصهاينة داخل المؤسّسة الرسمية الأميركية وخارجها، فحتى هؤلاء كانوا يحذّرون من الاستعجال باتخاذ خطوات متهوّرة تفجّر الشارع العربي، أو على الأقل تجعل الأنظمة العربية تتردّد في المضي في التطبيع مع إسرائيل. كان هناك اعتقاد أن هناك خطوطا حمراً لا تستطيع أميركا تجاوزها، إلى أن يحين الوقت، ولكنها فوجئت واحتفلت، وما تزال تحتفل، بالصمت العربي وبتسارع التطبيع التحالفي بين دول عربية وإسرائيل. ولا يعني ذلك أن الإدارة الأميركية ليست قلقة من تصعيدٍ يفجّر انتفاضة فلسطينية شاملة، وبالتالي اجتمع وفد أميركي بالرئيس محمود عبّاس، وتدخلت واشنطن لمنع اجتياح عسكري إسرائيلي للمسجد الأقصى، وضغطت على الحكومة الإسرائيلية بالتروّي، لكن واشنطن تعمل من موقعٍ يختلف عن السابق؛ واشنطن استنتجت، أو هكذا أرادت أن تستنتج أن الفلسطينيين وحدهم.
كل معركةٍ مهمة، وأشكال المقاومة مستمرّة
المهم أن واشنطن باتت تبني سياستها على اعتبار وقناعة بأن الفلسطينيين باتوا وحدهم بعد أن مرّ اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة موحّدة وأبدية لإسرائيل "بسلام ووئام"، بل تبعه تسابق دول عربية ومسؤولين وتهافتهم على تأييد الرواية الصهيونية، بل تبنّيها، وإدانة الفلسطينيين، أي أن واشنطن أصبحت تعرف أن التطبيع والأجواء الاحتفالية لبعض المسؤولين العرب في كل اجتماع لترسيخ التحالف مع إسرائيل هو الحقيقة الكبرى التي تحاصر الفلسطينيين، وليس هناك من خيارٍ للفلسطينيين غير قبولها.
هذه النظرة، التي تعكس نزق المستعمر المنتصر وعنجهيته، تقول بأنه ما بقي للفلسطينيين إلا قبول هزيمتهم، وأن أي تحرّك مقاوم للشعب الفلسطيني على الأرض هو لعب في الوقت الضائع. هذه حقيقة يجب أن نفهمها لنفهم أهمية كل حركة وتحرّك مقاوم، ليس في فلسطين فحسب، بل في كل أرجاء الوطن العربي، فكل تحرّك، مهما كان حجمُه، مهم، سواء في المتابعة أو النشاط على مواقع التواصل الاجتماعي أو المسيرات، والأهم هو تصعيد حملة مناهضة التطبيع والمقاطعة وتوسيعها.
نعم، هناك اهتمام أميركي إلى حد العمل على محاولة منع انتفاضة ثالثة بتحميل السلطة الفلسطينية مسؤولية ضبط الشعب الفلسطيني، وهي مهمة لا تستطيع السلطة أن تقوم بها حتى لو أرادت، لكن الإدارة تعتمد على لغةٍ وقحةٍ بغرض تدمير معنويات الفلسطينيين، أي أنها تريد إشعار الفلسطينيين أنهم وحدهم، وأن مقاومتهم لن تُجدي، لكن المؤسّسة الأميركية تراقب وتدرس، ولا تتوقف مطوّلاً عند احتفاليات التطبيع التحالفي، فلديها مؤسّسات وأجهزة ترصد وتحلل ما يحدث على الأرض، وكل فعل مقاوم، وكيفية مجابهته، يجب أن نتذكّر ذلك، وإلا لفقد الجميع ثقتهم بقدراتهم.
فلنعد إلى مشاهد العنفوان الفلسطيني في المسجد الأقصى، مصدراً لإلهامٍ وقوة، فلا مكان للصمت ولا مكان للخنوع إلا للمتذللين
تحدّي الشعب الفلسطيني للمشروع الصهيوني في القدس، وفي كل مدينة وقرية فلسطينية، هو الأساس، لكن لا مجال للصمت، لأن طوق التطبيع يضيق لخنق الفلسطينيين، فكل معركةٍ مهمة، وأشكال المقاومة مستمرّة، لكننا نفهم أن يستنجد الفلسطيني في القدس والضفة الغربية بقطاع غزّة المحاصر للتحرّك، قطاع غزّة الذي ينزف ألماً ودماً؛ ففي كل مرّة ينهض مقاوماً تنهال الصواريخ الإسرائيلية لتمزّق أطفالاً منه، فمن منا يستطيع أن ينسى سقوط الأبراج على أصحابها وساكنيها وصور أطفالٍ لم يتبقّ منهم سوى أشلاء بعد عدوان الجيش الصهيوني في مايو/ أيار الماضي؟ ولكن دعوة أهل الضفة إلى إطلاق صواريخ غزّة مفهومة؛ إنهم يدعون إلى المقاومة، يستنجدون بقوةٍ تدافع عنهم ولا تتركهم وحدهم، فمهما كان التحليل السياسي لتداعيات الخيار المسلح في الوضع الحالي، يجب أن نفهم أن الاستنجاد بغزّة هو إدانة للصمت العربي، فليس من المعقول أن يصبح الإسرائيلي مرحّباً به ومحتفى به في دول عربية، بينما تستمرّ إسرائيل في تدمير الحياة الفلسطينية، لكنه أكثر من استنجاد، بل مؤشّر على جو ثائر ومشحون. كانت ظاهرة الفدائي المنفرد أحد تجلياتها، فالانتفاضات الكبرى تسبقها انتفاضاتٌ عنفية وغير عنفية مستمرّة، فهبّة أيار الفائت لم تنته.
الرهان الوحيد على الشعوب، لكن الشعوب تعاني من سيادة الإحباط، فمشاهد الذلّ والتذلل العربي لحاكم المنطقة الإسرائيلي قد تبعث على اليأس، وهذا ما تراهن عليه أميركا وإسرائيل، فالاستسلام للإحباط يجعلنا جميعاً متخاذلين ومتواطئين، فلنعد إلى مشاهد العنفوان الفلسطيني في المسجد الأقصى، مصدراً لإلهامٍ وقوة، فلا مكان للصمت ولا مكان للخنوع إلا للمتذللين.