معركة الأجندات الخارجية في مأرب
تتباين التحليلات بشأن المعارك المتواصلة، منذ ثلاثة أشهر، في الأطراف الغربية من محافظة مأرب في اليمن، حاصرةً ما يجري في زوايا ضيقة، تتعلق بالأطراف الداخلية للحرب، وقدراتها الذاتية على الحسم، غير أن الوضع الراهن يُبرز منعطفًا جديدًا من منعطفات الصراع بالوكالة لمصلحة أطرافٍ خارجية، في ظل تراجع القضية الرئيسة للحرب عمومًا، وتحكُّم هذه الأطراف بطرق الحل السياسي وأدواته.
يدرك الحوثيون أن تعارض أجندات الأطراف الخارجية، أو توافقها، لا يضع، بالضرورة، حدًا لطموحهم في السيطرة على مأرب، بل على العكس. وأنه في حال تحقق هذه السيطرة، فإنهم يكونون قد وجهوا ضربةً مميتةً للحكومة المعترف بها دوليًا، أو تؤدّي إلى موتها التدريجي، وهذا ما تعيه هذه الحكومة، لكنها عاجزة عن مواجهة ذلك، بالنظر إلى تفكّك مكوناتها السياسية والعسكرية، ويتجلى الأمر في استماتة قواتها المسلحة، ومجاميع قبلية موالية لها في الدفاع عن مأرب، وتقاعس القوات (مليشيات) المنضوية، شكليًا، تحت مظلتها، بناءً على حسابات خاصة متوافقة مع أطراف خارجية داعمة لها.
مع اشتداد المعارك في مأرب، خلال الشهر الجاري (إبريل/ نيسان)، كانت مفاوضات فيينا الخاصة بالاتفاق النووي مع إيران تمضي قريبًا من تفاعلاتها؛ حيث تصرّ الولايات المتحدة الأميركية التي لم تشارك، بشكل مباشر، في هذه المفاوضات، على إدراج الفواعل الإقليمية العنيفة التي تدعمها إيران، ومنها الحوثيون، ضمن قضايا أخرى تمثِّل شروطًا للعودة إلى هذا الاتفاق، فيما ترفض إيران ذلك؛ لإدراكها أن ما حققته من نفوذ في اليمن، عبر الحوثيين، يعد مكسبًا إستراتيجيًا ينبغي تعزيزه بتمكينهم أكثر، وليس التخلّي عنهم، على الأقل في الوقت الراهن، وبأي الثمن.
لا تبدو الإمارات بعيدة عما يجري في مأرب، على الرغم من انسحاب معظم قواتها من عدن
وبعودة فرقاء مفاوضات فيينا إلى عواصم بلدانهم، صعَّد الحوثيون من هجومهم على مأرب، وأخذت تصريحات المسؤولين الإيرانيين في الظهور والتناقض بشأن وقوفهم بجانب الحوثيين، ولم يكن ذلك إلا من قبيل خلخلة قناعات بعضهم إزاء حقيقة الموقف الإيراني، الداعم للحوثيين طوال الحرب وفي هذه المعركة. وفي سياق ذلك، جاء رد الولايات المتحدة، عبر مبعوثها الخاص إلى اليمن، تيموثي ليندر كينغ، خلال جلسة نقاش في مجلس النواب الأميركي، وضمن تصريحات أخرى لاحقة، إن دعم إيران الحوثيين فتاك وكبير، وأن هجومهم على مأرب يهدّد جهود السلام المبذولة، وينذر بكارثة إنسانية، لكن هذا التباكي لا يبدو بريئًا، فلو كانت الإدارة الأميركية صادقة، لما تراجعت عن تصنيف جماعة الحوثي منظمة إرهابية في فبراير/ شباط الماضي. وفي الحالتين، ليس المقصود سوى الاستغلال السياسي لمعركة مأرب.
ويبدو موقف التحالف، كذلك، مريبًا في هذه المعركة؛ إذ في الوقت الذي تستهدف مقاتلاته إمدادات الحوثيين، يضع، في الوقت ذاته، العراقيل أمام سعي القوات الحكومية إلى الحصول المباشر على الذخائر، والأسلحة الثقيلة والنوعية المؤثرة في موازين القوة، بما فيها الطائرات غير المأهولة التي حقق بها الحوثيون ميزة فارقة خلال مختلف المواجهات والجبهات. ليس ذلك فحسب، بل ذهبت السعودية، بوصفها قائدة التحالف، إلى التفاوض، سرًا، مع إيران، عبر أطراف عراقية جمعت بينهما، في بغداد، خلال شهر إبريل/ نيسان الجاري.
قد تعتقد السعودية أنها، بإطالة معركة مأرب، تضعف نفوذ الأطراف التقليدية التي تتصدّر الميدان السياسي والعسكري
أدّى تطابق الرؤية السعودية إزاء عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران، إلى تطابقٍ مماثل، إلى حدٍ ما، في التعامل مع معركة مأرب، وجعلها معركة استنزافية، لا تفضي إلى طريقٍ قريب النهاية، فإذا ما تمكّن الحوثيون من فرض إرادتهم تحت أي خللٍ قد يعتري الطرف الحكومي، فإن السعودية، وبدعم حلفائها الدوليين، تعتقد أنها لن تعدم الوسيلة لعزل الحوثيين عن إيران. ومن هذه الوسائل الاعتراف بهم، والتعايش الآمن معهم، بوصفهم سلطة حاكمة في شمال اليمن، في مقابل التخلي عن أطماعهم في مناطق الجنوب اليمنية، وتركها تقرّر مصيرها، وهذا التعايش مجرَّب مع النظام الجديد في العراق، بل ومع إيران ذاتها.
في سيناريو آخر، قد تعتقد السعودية أنها، بإطالة معركة مأرب، ستضعف نفوذ (وقوة) الأطراف التقليدية التي تتصدّر الميدان السياسي والعسكري منذ عام 2011، بناء على حسابات تتعلق بأبعاد ما عرف بثورة الربيع العربي؛ بحيث تعمل على أن تحلّ محلها قوى أخرى تحظى برضاها، وأنها قد تلجأ إلى تحقيق ذلك قسريًا. ولعل ممّا يساعد على ذلك أن معظم القيادات السياسية لهذه الأطراف مقيمة في السعودية بطريقة مقيدة لحريتها، أو في دول أخرى يمكن السيطرة عليها عبر وسائل عديدة.
لا تبدو الإمارات بعيدة عما يجري في مأرب، على الرغم من انسحاب معظم قواتها من عدن، نهاية عام 2019. وفي أي من السيناريوهات المتوقعة، لا يمكن أن تعارض أي ترتيبات ما دامت ضامنة لمصالحها ومصالح حلفائها الدوليين، خصوصًا بريطانيا، فضلًا عن حلفائها الداخليين الذين لا أثر لهم، من قريب أو بعيد، في جبهات الدفاع عن مأرب.