مصلحة واشنطن في اشتعال الحرب التركية اليونانية

09 سبتمبر 2022
+ الخط -

وصف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لأول مرة الجزر اليونانية القريبة من اليابسة التركية بـ"المحتلة"، ملوّحاً بأن بلاده قد تلجأ إلى استعادتها عسكرياً من خلال استخدام مقولته "قد نأت على حين غرّة ذات ليلة". .. ما الذي أغضب أردوغان ودفعه إلى التصعيد من جديد ضد جاره اليوناني؟

أعلنت أنقرة عن تعرّض مقاتلات تركية وأميركية تنفذ مهمة أطلسية روتينية فوق بحري إيجه وشرق المتوسط بواسطة نظام الدفاع الجوّي "إس - 300" الذي نصبته أثينا في جزيرة كريت اليونانية بطريقة غير شرعية. ما تقوله أنقرة لا يعني أثينا وحدها، بل الجانب الأميركي وشركاء حلف شمال الأطلسي أيضا. تردّد الخارجية التركية أن التحرّكات اليونانية أخيرا لا تعدّ خروجا عن التفاهمات، بل استهداف مقاتلات أميركية الصنع اشترتها تركيا، وكانت في مهمة أطلسية مشتركة مع المقاتلة الأميركية بي - 52 فوق بحر إيجه. وهي كرّرت فعلتها خلال الأسبوع الأخير من الشهر الماضي (أغسطس/ آب) خمس مرّات غير عابئةٍ بالتحذيرات التركية. ولا تقع مسؤولية الرد على أنقرة وحدها. إذا، لا بد من موقف أميركي أطلسي واضح حيال ما يجري.

صعّد الغرب ضد أنقرة بسبب شراء منظومة إس 400 التي لم تستخدمها أو تفعلها، فكيف سيتعامل مع اليونان التي فعلت هذه المنظومة الروسية ضد حليفِ مفترضٍ لها؟

صعّد الغرب ضد أنقرة بسبب شراء منظومة إس 400 التي لم تستخدمها أو تفعلها، فكيف سيتعامل مع اليونان التي فعلت هذه المنظومة الروسية ضد حليفِ مفترضٍ لها؟ هذا ما تريد أنقرة معرفته. ولهذا جاءت تصريحات أردوغان مختلفة هذه المرة: يتحدّث عن احتلال اليونان الجزر المجاورة لبلاده. يذكّر أثينا بما جرى عام 1922 وكيف جرت عملية إخراجهم من الأراضي التركية، بعدما اقتربوا إلى مسافة عشرات الكيلومترات من العاصمة التركية. يقول إن القوات التركية ستتحرّك في ليلة مظلمة، إذا ما تمسّكت اليونان بسياساتها التصعيدية وخطوة تسليح الجزر بعكس التعهدات المقدمة في اتفاقيتي لوزان 1923 وباريس 1947. ويكشف عن أرقام التحرش والتجاوز والإخلال بالحدود البحرية التركية في العامين الأخيرين التي تجاوزت 500 عملية. وأنقرة تستعد لنقل الملف إلى حلفاء الغرب وشركائه، والأمانة العامة للأمم المتحدة، وهي ستدعمه بوثائق ومستندات بشأن ما جرى بين 22 و31 أغسطس/ آب المنصرم في سماء بحر إيجه، وتسليط الضوء حسب الخارجية التركية على "ممارسات اليونان غير القانونية ومزاعمها أن مساحة مجالها الجوي عشرة أميال بحرية، على الرغم من أن مساحة مياهها الإقليمية في إيجه تبلغ ستة أميال".

دعت واشنطن الطرفين إلى التهدئة والذهاب إلى طاولة الحوار، ثم عادت وبدلت موقفها، وهي ترد على عبارة أردوغان عن "احتلال الجزر" بإعلانها أن سيادة اليونان على هذه الجزر غير قابلة للنقاش. دعم أميركي جديد لأثينا يأتي بعد تلميحها أنها لم تتخذ أي تدابير ضد أثينا بسبب تفعيل منظومة إس 300، لأنها حصلت على هذه المنظومة قبل قرارات "كاتسا" المعلنة عام 2017. ويردّ الجانب التركي بأن الهند أيضا الحليف والشريك للغرب اشترى هذه المنظومة الحديثة مثل أنقرة عام 2019، لكن أميركا لم تتحرّك ضد هذه الخطوة. هناك ازدواجية معايير في السياسة الأميركية لا بد من حسمها حسب أنقرة.

يقول وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، إنّ "اليونان تراهن من خلال شراء بعض المقاتلات والأسلحة الحديثة على قلب التوازنات العسكرية مع تركيا، بينما خيارها الأفضل هو الحوار السلمي مع جارها التركي". لكن تقارير وتقديرات موقف كثيرة تفيد بأنّ واشنطن حسمت موقفها في مسألة استحالة إقناع تركيا بالابتعاد عن روسيا في ملفات استراتيجية تعني مصالح الغرب، وإن هدف خطوة الانفتاح على اليونان مواجهة الانفتاح التركي على موسكو، حتى ولو كان الثمن نسف معادلة موازنة العلاقات الأميركية مع أنقرة وأثينا المعتمدة منذ العام 1952، وقبولهما تحت مظلة حلف شمال الأطلسي.

التحرّك الأميركي العسكري في اليونان رسالة إلى روسيا حتماً، لكنّه رسالة إلى تركيا أيضا

فشلت واشنطن في منع التقارب والانفتاح التركي الروسي ومحاولة الإمساك بورقة المضائق التركية، وهي تبحث عن البديل الأسرع والأضمن لحماية مصالحها الاستراتيجية في إيجه وشرق المتوسط. الخطوة المناسبة كانت عبر تحديث اتفاق الدفاع المشترك مع اليونان الموقّع عام 1990، بهدف نشر قواتها في قواعد عسكرية عديدة قائمة، وإنشاء الجديدة من أجل ذلك، مع شرط تحديث الاتفاق كلّ خمس سنوات، لتثبيت نفوذها وحماية مصالحها في تلك البقعة الجغرافية. سلمت الدفعة الأولى في عملية المقايضة إلى رئيس الوزراء اليوناني الأسبق، ألكسيس تسيبراس، في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2017، عندما صدر قرار بتقديم مساعدات أميركية عاجلة إلى اليونان بقيمة 2.5 مليار دولار.

التحرّك الأميركي العسكري في اليونان رسالة إلى روسيا حتماً، لكنّه رسالة إلى تركيا أيضا، التي لا تتراجع عن مواقفها وسياساتها في شرق المتوسط وإيجه. تعول أثينا على صفقات المقاتلات الأميركية والفرنسية المتطورة التي اشترتها في العامين الأخيرين، لكنها تعول أكثر على القواعد العسكرية الأميركية لحماية أراضيها في مواجهة التهديدات والتصعيد التركي.

حصة واشنطن هنا كبيرة كما تقول أنقرة في كل ما يجري ويدور. هناك أكثر من عشر قواعد عسكرية أميركية تم تجهيزها داخل الأراضي اليونانية، وهي في العلن تستهدف روسيا وقطع الطريق على تمدّدها الإقليمي، لكنها من وراء الستار تعني تركيا وتقاربها أخيرا مع موسكو. تريد أميركا محاصرة تركيا في بحر إيجه لإضعافها في شرق المتوسط، وفي حوض البحر الأسود والملف القبرصي. تريد أنقرة في المقابل إكمال ما تريده في شمال سورية، وحماية مصالحها في شرق المتوسط ولعب الورقة الروسية في أكثر من مكان موجع لواشنطن.

كانت فرنسا هي من يقود المشهد نيابة عن الاتحاد الأوروبي حتى الأمس القريب في رسم سياسات أثينا في مواجهة النفوذ التركي المتزايد. وباريس هي التي شجّعت على بناء تكتل الطاقة السباعي في القاهرة الذي استبعد تركيا عن المنصة، بسبب التقارب بين أنقرة وطرابلس الغرب، وتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي عرقلت كل خطط التحالفات في شرق المتوسط على حساب الأتراك والليبيين. لكن النفوذ الفرنسي تراجع، بعدما دخلت واشنطن على الخط، وقرّرت الإمساك بخيوط اللعبة بنفسها في مواجهة التمدّد الروسي وشبكة التحالفات الإقليمية الجديدة التي بناها بوتين مع الأتراك والإيرانيين هذه المرّة.

تتهيأ أنقرة لامتحان اليونان سياسيا وعسكريا، ولكن قرار المواجهة أميركي كما يبدو

تتهيأ أنقرة لامتحان اليونان سياسيا وعسكريا، ولكن قرار المواجهة أميركي كما يبدو. ساعة الصفر في انطلاق العمليات العسكرية ستعلنها واشنطن نيابة عن أثينا. وقيادات حزب العدالة والتنمية حمّلت، منذ البداية، الإدارة الأميركية مسؤولية تحويل أثينا في العامين الأخيرين إلى "الابن المدلل"، بعدما فعلت أوروبا ذلك طيلة العقدين الماضيين، وتسلم إدارة الملف إلى أميركا هذه المرّة.

تستعد تركيا واليونان لانتخابات صعبة في العام المقبل. احتمالات لعب كل الأوراق المتاحة من أجل الفوز موجودة حتما، لكن مسألة توتر العلاقات بين أنقرة وأثينا في بحر إيجه وشرق المتوسط وارتباطها بعمليات التنقيب عن الطاقة والتفاهمات والاصطفافات الجديدة الحاصلة، ومسار هذه الملفات سيكون له حصته الكبيرة أيضا في حملات البلدين الانتخابية المرتقبة.

4A6988D0-57AB-4CAB-9A76-07167D860E54
سمير صالحة

كاتب وباحث تركي، أستاذ جامعي في لقانون الدولي العام والعلاقات الدولية، دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة باريس، له عدة مؤلفات.