مصر ولبنان مرة أخرى: المقارنة الظالمة
ليس عيبًا ولا عارًا وطنيًا أن يكون على هذه الدولة أو تلك ديون خارجية وداخلية، إنما الأهم هنا هو ماذا تفعل الديون المتراكمة بالدول، فيما يخصّ قرارها الوطني من جهة، وما يتعلّق بسلامة البناء الاجتماعي والحالة الإنسانية فيها من جهة أخرى.
في النقطة الأولى، هناك عديد الدول التي تبلغ ديونها تريليونات الدولارات، لكنها تظلّ محتفظة بسيادتها من دون أن تسقط في مستنقع التبعية والتفريط في وحدة ترابها الوطني ووحدة نسيجها الاجتماعي. وبحسب أرقام صندوق النقد الدولي لهذا العام، تأتي الولايات المتحدة والصين واليابان وفرنسا وبريطانيا الأعلى ديونًا على مستوى العالم، بالأرقام التالية: الولايات المتحدة في المركز الأول بـ31.8 تريليون دولار، ثم الصين بقيمة 15.5 تريليون دولار، ثم اليابان بقيمة 12.9 تريليون دولار، وبعدها فرنسا بقيمة 3.3 تريليونات دولار، ثم إيطاليا بقيمة 3.1 تريليونات دولار، وتليها الهند بقيمة 3.1 تريليونات دولار أيضا، ثم ألمانيا بقيمة 3 تريليونات دولار، وتأتي بريطانيا بقيمة 3 تريليونات دولار أيضا.
عربيًا، جاءت مصر في الصدارة بـ409.5 مليارات دولار، تليها السعودية 250.7 مليار دولار والإمارات 158.9 مليار دولار والجزائر 109.6 مليارات دولار والعراق خامساً 104.1 مليارات دولار، والمغرب بديون تتجاوز 102.6 مليار دولار ولبنان في المرتبة السابعة بقرابة 99.8 مليار دولار ثم السودان 89.4 مليار دولار والبحرين 51.5 مليار دولار، وحلّت سلطنة عمان في المركز العاشر 48.5 مليار دولار.
حدّثني عن دولة واحدة فرّطت في جزيرة من جزرها سدادًا لديْن أو وفاءً لمساعدة تلقتها السلطة الحاكمة لهذه الدولة من دولة أخرى، أو دولة سلمت نفسها لصندوق النقد الدولي، يحدّد سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، أو دولة قرّرت ملء سجونها بالمحتجّين على تردّي الأوضاع المعيشية واعتبرتهم من الخونة والأعداء.
حدّثني عن دولة عربية واحدة تحوّلت إلى سجن كبير يبتلع عشرات الآلاف من المواطنين بحجّة أنّ الحالة الاقتصادية صعبة، أو دولة قرّرت أن تستخدم الفقر ذريعة لإعدام الحريات وقتل حقوق الإنسان والتحالف مع أعدائها والتخلّي عن أشقائها.
ما هي الدولة ذات الديون التي كلما زادت قروضها طالبت مواطنيها بالترشيد والتقشّف، ثمّ راحت تتوّسع في بناء القصور الرئاسية وشراء الطائرات الرئاسية والإنفاق على مظاهر البذخ السفيه، وتفرض قوانين أشبه بفرمانات الجباية على رعاياها؟
أعود مرة أخرى إلى المقارنة بين الحالتين، المصرية واللبنانية، حيث ارتفاع حجم الدين العام وزيادة التضخم وانهيار العملة النقدية أمام الدولار، إذ تقدّر نسبة الديْن العام اللبناني من إجمالي الناتج المحلي بنحو 150% فيما تقدّر في مصر، بحسب خبراء اقتصاديين، بأكثر من 130% من إجمالي الناتج المحلي، إذا وضعت إجمالي الدين المحلي بمكوّناته الثلاثة، مع إجمالي الدين الخارجي بكلّ مكوناته، الحكومة والبنوك والقطاع الخاص.
لا يعيب الأوطان انخفاض قيمة عملتها النقدية، فترة قصيرة أو حتى طويلة، وإنما يعيبها انخفاض قيمة المواطن، الإنسان الذي يصبح مستباحًا في دمه وماله وحريته، إن تجرّأ على الاعتراض. وفق هذا المعيار الإنساني، تحديدًا، حال لبنان أفضل من مصر بمراحل، إذ لم يشهد لبنان مذبحة جماعية نفذتها سلطاتها الأمنية ضد المعارضين لانقلاب عسكري على إرادتهم الانتخابية، كما لم يشهد قرصنة حكومية على الشركات المملوكة لرجال أعمال وطنيين، أو مصادرة أصولهم، قبل وضعهم في السجون.
لبنان، متعدّد الطوائف والإيديولوجيات، شهد ثورة شعبية عارمة شاركت فيها ألوان الطيف السياسي والاجتماعي كافة من دون أن تفتح السلطات الأمنية النار على المتظاهرين أو تسجنهم بالآلاف أو تخفيهم قسريًا بالمئات، أو تعتبر الهتاف ضد النظام برئاساته الثلاث جريمة تهدّد الأمن القومي وتقضي على الاستقرار.
ليس في لبنان جيوش من الحشرات الإلكترونية، مختلفة الأحجام والأنواع، المحقونة بأردأ هرمونات الوطنية الفاسدة، يطلقها النظام على معارضيه لتنهشهم ببذاءة ساقطات محترفات، وتتهمهم بكراهية البلاد والشماتة فيها. ليس في لبنان نظام حاكم يتصوّر نفسه نصف إله لا يُسأل عما يفعل، يبطش بكلّ من يعارضه أو يراجعه أو يسخر من هذيانه، أو ينفث وجعه ومعاناته في صورة كاريكاتير أو نكتة على مواقع التواصل الاجتماعي.
الأزمة الاقتصادية شديدة في لبنان ومصر، وإن كانت في لبنان أشدّ، غير أنها لم تقضِ على مخزونه الإنساني والأخلاقي، وما زال بالإمكان أن يعارض المواطن حكومته، بل يسبّها ويسخر منها، في الشارع وفي المقهى وعلى شاشة التلفزة، ويعود إلى منزله سليمًا، لا يختطفه قاطع طريق ويخفيه قسريًا بحجة حماية أمن الوطن.
في لبنان يواصل النظام الفشل، بينما يستمر المواطن في السخرية والتعبير عن الغضب، لا يقول له أحد "بطل هري". ولذلك كله وغيره كثير، تظلم المقارنة لبنان.