مصر لن تسقط.. الفلوس في الطريق
لا يتمنّى سقوط مصر إلا عدوٌّ سافل، ولا يتوّقّع سقوطها إلا جاهل، ولا يهينها إلا ساقط. على أنّ ذلك لا يعني في أيّ حال أنّ كلّ من يعبّر عن ألمه مما تردّت إليه الحالة المصرية هو بالضرورة حاقدٌ أو كاره، كما أنّ كلّ من يشير إلى مواضع الخلل والفساد ومسبّبات الانهيار ليس من الخونة، كما يردّد ساقطون كثيرون ممن يتربّحون من عوائد الوطنية الفاسدة، التي تقدّس المستبدّين والفشلة الذين أوصلوها إلى هذه الحالة من البؤس والهوان.
هل هناك أكثر مهانًة من أن يصل الحال ببلد إلى أن يصبح النجاح في مزيد من الاستدانة والاقتراض وبيع الأصول إنجازًا وطنيًا؟
يفرضُ السؤال نفسَه على إيقاعات هتاف للوطن احتفالًا بأنّ فلوسًا جديدة ستأتي من الخارج لتصبّ في حصالة الحكومة، عن طريق بيع مناطق كاملة من أرض البلد لجهات خارجية، دولًا أو أفرادًا، أو عن طريق حزمةٍ جديدةٍ من القروض لسداد أقساط ديونٍ قديمةٍ لا يمر شهر إلا وتكون واجبة السداد، متبوعة بإجراءاتٍ وقراراتٍ اقتصادية تُلهب ظهر المجتمع، وتكوي وجوه الناس بالغلاء والكساد والبطالة.
هذا هو السقوط الحقيقي الذي يتنكّر على هيئة إنجازات لنظامٍ يعيش على خراطيم القروض والديون والمنح والمساعدات التي اقتربّت من مائتي مليار دولار خلال عشر سنوات مضت، من دون أن تنبت زرعًا أو تملأ نهراً أو تحفظ ماء وجه. عشر سنوات تتهاوى فيها العملة المحلية من انهيار إلى انهيار، وتختنق الأجواء بدخان الوعود الكاذبة وطلب الصبر حتى جني الثمار، هي سنواتٌ لا ينبت فيها إلا الصبّار فتمتلئ البطون والنفوس بالمرار، وتتعلّق الأنظار بالبنك المركزي كلّ موعد سداد قسط من أقساط الديون التي تتراكم كالتلال.
يقول الناصري المعتّق، مصطفى بكري، وهو يبّشر الشعب العظيم بأنّها ستمطر فلوساً غداً في تغريدة على موقع إكس (تويتر سابقا) ما يلي: "قلت منذ عدة أسابيع إن مصر ستدخلها مبالغ مالية كبيرة وانتظروا ترجمة هذه الأخبار إلى واقع. الذين ينتظرون خراب مصر، هم خدم إسرائيل وعملاء أميركا. أنتم لا تعرفون هذا الشعب العظيم، الذي سيعطيكم درسا جديدا في حماية وطنه من أي مكروه. من يحرض ضد مصر خائن. من ينشر الشائعات عامدا متعمدا خائن، من يستغل الأزمة لضرب اقتصاد وطنه خائن. مصر العظيمة عصية على الانهيار".
الأستاذ بكري سليل الناصرية وربيب الوطنية التي تدافع عن الاستقلال الوطني لم يتكرّم على الشعب العظيم الذي ينتظر بيانه الثوري بأن يروي ظمأه بمعرفة مصدر "مبالغ مالية كبيرة" ستدخل مصر، هل مزيد من الديون، أم مزيد من البيوع على طريقة تيران وصنافير؟ وأيّ اقتصاد وطن هذا الذي لا يحيا بغير استدانة واقتراض وبيع؟
أفهم أنّ الأوطان الحرّة المستقلة تنتج ما تأكله، أو حتى نصفه، وتصنع ما تعيش به، أو على الأقل نصفه، وإن اقترضت مرّة، فإنما يكون ذلك لتطوير أدوات الإنتاج وتشغيل طاقاتها البشرية، للحصول على ما يكفي القسم الأكبر من احتياجات شعبها وسداد هذه القروض، أما أن تتّخذ الاستدانة والاقتراض منهجًا ثابتاً وعقيدة وطنية لا تتغيّر، فإنك لا يمكن أن تتحدّث هنا عن سيادة أو استقلال، لأنّ الديون تلد ديوناً، حتى تتكاثر وتتراكم فتتصلّب شرايينها ولا تقوى على الحياة إلا بمزيدٍ من الدعامات إلى أن تصل إلى مرحلةٍ لا تنفع معها جراحات أو مسكّنات، وهذا ما حدث بالفعل في كلّ التجارب السياسية والاقتصادية التي يعرفها أبواق "وطنية الفلوس"، ولطالما كتبوا عنها وحذّروا الناس منها قبل أن يسقُطوا في غواية مثيلاتها في بلدانهم.
يعلم هؤلاء بالضرورة أنّ الديون لا تُنقذ وطنًا ولا تصلح لتعويمه وانطلاقه، وإلا فليقولوا لنا ماذا حققت عشر سنوات مكتظّة بعشرات المليارات من الدولارات، منحًا، ومساعدات، وهدايا، وجباية، وقروضًا، تهطل بغزارةٍ من صندوق النقد والبنك الدوليين؟. ... لم تحقق شيئًا سوى أنهم صاروا يروْن في استدرار مزيد من هذه الديون نصراً وطنياً وفتحاً عظيماً، فضلًا عن كونها عشر سنوات مكتظّة بالتعذيب في السجون، حتى القتل والإخفاء القسري والسطو على أموال الناس وممتلكاتهم وشركاتهم.
قالها ابن خلدون: "الظلم مؤذن بخراب العمران"، وردّدها الشعب ذات يوم: "عمر الظلم ما قوِّم دولة" ويقولها الواقع كلّ يوم، لا صلاح للاقتصاد إلا بصلاح السياسي.